(في القوانين يقول أفلاطون إن الموسيقى والرقص علاجان للخوف)، وبالمقابل يقول الإمام أبو حفص عمر بن محمد القرشي التميمي البكري الشافعي الملقب شهاب الدين عمر السهروردي (توفي 632هـ) في كتابه (عوارف المعارف) الباب الثاني والعشرون ما نصه: (إن المنكر للسماع على الإطلاق من غير تفصيل لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما جاهل بالسنن والآثار، وإما مغتر بما أتيح له من أعمال الأخيار، وإما جامد الطبع لا ذوق له فيصر على الإنكار).

وعندما نعود لتاريخ صدر الإسلام نجد (عيسى بن عبدالله، أبو عبدالمنعم الملقب بطويس من موالي بني مخزوم أول من غنى بالمدينة غناءً يدخل في الإيقاع، وهو من أشهر المغنين والعارفين بصناعة الغناء في صدر الإسلام، ولد بالمدينة سنة 11هـ وتوفي سنة 92هـ بالسويداء قرب المدينة، ومثله سائب بن يسار الليثي بالولاء، أحد أئمة الغناء والتلحين في العرب، وهو أول من عمل العود بالمدينة وغنى به، قتل في معركة الحرة سنة (63هـ)، أما من جمع بين اللغة والموسيقى والتاريخ وعلوم الدين، عالماً حافظاً للأخبار فهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي من أشهر ندماء الخلفاء، توفي سنة 235هـ، وقد وردت ترجمته في الفهرست لابن النديم ووفيات الأعيان وتاريخ بغداد).

ومن قرأ ما كتبه من تصدر للإقراء بجامع الأزهر مدة، ثم ولاه الملك الظاهر برقوق قضاء القضاة المالكية بديار مصر سنة 786هـ، والمقصود هو الإمام عبدالرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون، سيدرك كم كان العالم في ذلك الزمن يطلع على جميع الفنون (مثقف)، فحكايته عن صناعة الغناء في المقدمة يتفوق بها على بعض أهل الفن في هذا الزمن.

لكن هل يلزم من وجود الموسيقى في المجتمع تهذيب طباع المجتمع بشكل مطلق؟ بالتأكيد لا، فمثلاً لم يلزم من وجود مؤسسة الزواج في المجتمع انتفاء الخيانات الزوجية من أحد أطرافها، فكما أن الزواج كمؤسسة لا تمنع أحد أطرافها من الخيانة فإن الموسيقى كفن لن تهذب طباع المجتمع بالمعنى المطلق، بل سيوجد من هو جافي الطبع بل ومجرم يستمتع بتقطيع جثة على أرق أغنية وموسيقى يتخيلها إنساناً، كما أن هناك من يمارس ويتلذذ بالخيانة داخل منزله بل داخل غرفة الزوجية وزوجته من أجمل نساء الأرض.

هناك نوع أخير من الناس الطيبين لا علاقة لهم بالموسيقى ومن المجحف أن يتهموا بالسوء لعدم استساغتهم الموسيقى والطرب، لأنهم يعيشون مع الموسيقى حياة لا علاقة لها بقيد عقائدي بقدر ما لها علاقة بالاستعداد النفسي والتذوق الحسي، الذي لا ينفي عن (العنين) مثلاً حسن الأخلاق والنبل وكرم الطباع دون إحراجه بضرورة الاعتراف بمؤسسة الزواج والارتباط ليكون كاملاً في نظر المجتمع، ولا ينفي عن (الأعمى) الذكاء وجمال الروح لأنه لا يرى في اللوحات الفنية أي إضافة حضارية.

الموسيقى في العموم أنواع، ولهذا فقد يصنع هتلر وستالين (أناشيدهم) النازية والشيوعية كما صنعت الصحوة (أناشيدها) الأممية مستغلة الفن (بعض أناشيد الصحوة سرقة لألحان فيروز)، وكل ذلك في سبيل الموت، ولا مشاحة فقد استخدمت داعش ومن قبلها الخوارج الدين والآيات لإنتاج أبشع القتلة على مر التاريخ الإسلامي.

كل الذين تعمقوا في الفلسفة والفكر يدركون أن (الأيديولوجيا الشمولية) ما دخلت في شئ إلا أفسدته، وشرطها الدائم أنها (قطعية وثوقية عقائدية) فإذا هامت بالورود حباً ورعاية في الحدائق والغابات فلن تستخرج منها إلا السم بكل إخلاص وحرص عاجزة بطبيعتها الأيديولوجية عن استخراج العطور، بل إنها سترى حتى في العطر أنه نجاسة لأنه (كحول) والكحول خمر والخمر نجس وعليه فلا يجوز استخدامه، وعليها قس لتفهم معنى الأيديولوجيا التي كانت (علم الأفكار) لتتحول إلى دلالة على (الجمود الفكري).

مؤسسة الزواج هي أفضل فكرة (سلمية) عرفتها البشرية في الارتباط بين رجل وامرأة في كل أنحاء العالم على اختلاف مللهم ونحلهم، ولم تكن هذه المؤسسة مانعاً دون حصول الخيانة الزوجية على مر العصور، والموسيقى هي أحد الفنون السبعة التي تعتبر مؤشرا واقعيا على الرقي الحضاري لأي أمة من الأمم، ولن تحول الفنون السبعة كلها وليس الموسيقى وحدها، دون وجود أفراد خارج المعنى الحضاري بله الإنساني، يمارسون أبشع الجرائم في أرقى وأعرق مدن الحضارة في العالم.

أخيراً يؤلمك أن تقرأ لمن واصل دراسته العليا في أرقى جامعات العالم المتحضر، ثم يسخر علمه في تأصيل (التخلف) عبر مماحكات ظاهرها المنطق العلمي واللغوي وباطنها (انفطار كبده لحنين صحوي مرير)، فهم يذكرونك بلؤم من يسافر لأقصى بلدان الدنيا للدراسة فيرى أنواع السيارات وأرقى المواصلات، وما زالت قريته على الدواب ثم يعود من دراسته فيجد بعض أبناء قريته يريدون إقناع القرية بفائدة فتح الطرق ودخول السيارة لقراهم فيقاومهم (هذا اللئيم)، بسرد إحصائيات الحوادث التي تسببها السيارات والأضرار البيئية والحقوقية التي تلحق بأراضيهم عبر اقتطاع بعض مزارعهم لصالح الطريق، وكل ذلك باسم المنطق العلمي (علمياً لم يكذب) لكنه (حضارياً) مارس أبشع وأقذر سلوك بحق قريته وأهله، وكل ذلك باسم (المنطق العلمي الرزين) وما أكثرهم في فضاء وسائل التواصل الآن، يعارضون كل ما تتطلبه (2030) من تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية بمنطق علموي حداثوي لأسباب (صحوية متخلفة حضارياً وإنسانياً)، بعضها عن وعي متعمد والكثير منها بقايا سلوك تربوي لا إرادي من (المنهج الخفي) الذي ترسخ في النفوس عبر المدارس طيلة عقود.