من الخطأ الكبير التعامل مع التحولات السياسية والفكرية التي تمر بها السياسة التركية في العقدين الأخيرين، على أنها تحدث باستقلال تام عن أي قوى خارجية، فكل السياسات المرسومة لحزب العدالة والتنمية في سبيل تمدده وتوسعه تسير ضمن ديناميكيات خارجية حتى في عملية تمرده الظاهري تجاه العلمانية الكمالية، ليست في حقيقتها إلا نتاج إستراتيجي لمشروع يعرفه القاصي والداني، يعرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يتبنى نظرية ما يعرف بالإسلام المعتدل.

يعتقد مستشار البيت الأبيض جراهام فولر أن اتباع تركيا لنموذج العلمانية الفرنسية جعلها تنسلخ عن العالم الإسلامي ولم يعد باستطاعتها التأثير فيه، فهو يعتقد أن الأسس التاريخية والثقافية للعلمانية ضعيفة جدا في العالم الإسلامي، ولذلك يجب تبني فكرة تطوير إسلام معتدل غير مناهض للمصالح الغربية وتلعب تركيا فيه دور الوسيط أو الوكيل، ومن هنا التقط إردوغان وأتباعه هذه النظرية وعملوا وفقها. فالشعارات التي يحملها هذا الحزب وتصويره من قبل أتباعه وكأنه مناضل ضد العلمانية الكمالية، يعكس مقدار البراغماتية والانتهازية التي يحملها هذا الحزب، ومقدار الجاهزية التي يظهرونها في سبيل التحول لقوة إقليمية أو قوة إمبريالية فرعية في المنطقة.

حزب العدالة والتنمية ومنذ تأسيسه الملتبس والغامض، يلعب أدوارا مشبوهة ضمن ظروف خارجية وإمبريالية مواتية، تعمل تحت غطاء الإسلام المعتدل ليكون أشبه بحصان طروادة وخنجرا في قلب العالم الإسلامي. فحسب الأهداف المرسومة لهذا الحزب فإن تركيا ستتحول من دولة العلمانية الكمالية المتزمتة إلى دولة الإسلام المعتدل بهدف تقديمها إنموذجا لدول الشرق كافة.

لاحظنا في السنوات الأخيرة أن غالب شعارات الحزب وخطاباته الحماسية موجهة بالدرجة الأولى للعالم العربي والإسلامي في منطقة الشرق الأوسط، ولاحظنا كيف يستغل كل وسائل الإعلام والقوى الثقافية الناعمة، ويستخدم أتباعه في العالم العربي لكي يسوقوا صورته أمام الشعوب العربية، بصفته المناضل ضد العلمانية الأتاتوركية، والساعي في سبيل إعادة تركيا للسير في طريق الشريعة الإسلامية.

هذا التحول في السياسة التركية من مفهوم العلمانية الأتاتوركية إلى مفهوم الإسلام المعتدل، تحدث عنه بإسهاب وتفصيل جراهام فولر في كتابه (الجمهورية التركية الجديدة)، والذي يتضح من عنوانه الدور الجديد الذي يجب أن تلعبه تركيا في المنطقة وما هي الصيغة السياسية المناسبة لتسهيل تغلغل نفوذ الحزب للعالم الإسلامي.

أخذت عملية التوغل تجاه الشرق الأوسط في أول الأمر طابعا ثقافيا من خلال الضخ الإعلامي عبر الدراما التركية التي تحمل بين طياتها الكثير من الرسائل الثقافية التأثيرية الموجهة لغرض التأثير النفسي في المشاهد العربي، عن طريق إحياء ميراثها الإمبراطوري العثماني، والاستفادة من كل ما يمكن أن يقدمه الإرث العثماني من تأثير، إضافة للتركيز على جمال الطبيعة ونمط العيش الحديث في تركيا، من ناحية الأزياء والطعام والتقاليد وشتى موضوعات الحياة الاجتماعية، لغرض تسويقها على هيئة «منتج ثقافي» للشعوب العربية التي تأثرت تأثرا كبيرا بفعل الدراما التركية.

استطاع حزب العدالة والتنمية من خلال أساليبه التأثيرية ودعايته السياسية أن يكسر شيئا من جليد الممانعة الثقافية العربية، وقد كانت هذه الدعاية ملحوظة لكثير من النقاد، واستخدم فيها كل وسائل التأثير الجماهيري من خطب ومحاضرات وندوات وبرامج فضائية ليخترق المجتمعات العربية، فقد مارس هذا الحزب حربا ثقافية باردة لا تخطئها العين تجاه المجتمعات العربية، بلغت أقصى تأثيرها وتوغلها في وقت أحداث ما يعرف بالربيع العربي، من خلال دعم التنظيمات السياسية في العالم العربي وإمدادها بالمال والمعلومات، وأهم هذه التنظيمات تنظيم الإخوان المسلمين الذي تم احتضانه واستضافته على الأراضي التركية، لتسهيل عملية التسلل إلى العالم العربي ورسم خريطته الإقليمية الجديدة.