من أعظم وسائل تحقيق الحياة الطيبة الأمنُ والأمانُ، فبه يتحقَّق الاطمئنانُ والسكونُ، والرخاءُ والازدهارُ، وبه تستقيم المصالح وتُحفَظ الأنفسُ، وتصان الأعراضُ والأموالُ، وتأمن السُّبُلُ وتقام الحدودُ، وبفقده تضيع الحقوقُ، وتتعطَّل المصالحُ، وتحصل الفوضى، ويتسلَّط الأقوياء على الضعفاء، ويحصُل السلبُ والنهبُ، وسَفْكُ الدماء وانتهاكُ الأعراض، إلى غير ذلك من مظاهر فَقْد الأمن للمجتمع.

ولا يمكن أن يعيش المرءُ في حالة لا يجد فيها أمنًا ولا استقرارًا، إذ كيف يطيب عيشُه إذا عدم الأمن، وهو كذلك ضرورة لكل مجتمع، حيث السلامة من الفتن والشرور والآفات، فالأمن نعمة عظمى، ومِنَّة كبرى، لا يُدرِك قيمتَه ولا يستشعر أهميتَه إلا مَنْ تجرَّع غصةَ الحرمان منه، واصطلى بنار فقده، فوقَع في الخوف والقلق، والذعر والاضطراب والفوضى والتشريد والضياع، فكم من غريب فقَد موطنَه، وكم من شريد غاب عن أهله وعشيرته، وكم من منكوب تائه لا يعرِف له مأوى، ولا يشعر بطمأنينة ولا استقرار.

ومن أجل تحقيق الأمن بجميع أنواعه، الفكري والحسي، جاء الإسلام بحفظ الضرورات الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ورتَّب حدودًا صارمة في حق من يعتدي على هذه الضرورات، سواء كانت هذه الضرورات لمسلمين أو معاهدين، قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: «فالكافر المعاهد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم»، قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة»، وقال الله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ».

وقد نص الفقهاء - رحمهم الله - على حقوق غير المسلمين في بلاد المسلمين، وكتبهم طافحة في هذا، وذكروا أن الذين يدخلون تحت عهد المسلمين من الكفار ثلاثة أنواع منهم:

المستأمن: وهو الذي يدخل بلاد المسلمين بأمان منهم، لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلده بعد إنهائها.

وقد أمرت الشريعة بصيانة أموالهم وأعراضهم وحقوقهم، بل جعلت الاعتداء عليهم سبباً لعدم دخول الجنة، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». رواه البخاري.

وحينما نتصفح كتب الفقهاء نجد أنهم نصوا على أحكام كثيرة، تدل على حفظ الشريعة لحقوق المعاهدين، وجواز التعامل معهم، بل وجوب حفظ حقوقهم، وقد ذكروا ذلك في أبواب العبادات والمعاملات، فأجازوا مثلاً البيع والشراء منهم، والصدقة والوقف على الذمي.

ولهذا فالاعتداءات التي تقع على المعاهدين في بلادنا، على أن دافعها الفكر الإرهابي المنحرف، والذي تغذيه الجماعات الحزبية كالإخوان وغيرهم، إلا أنه أيضاً بسبب الجهل بأحكام هؤلاء المعاهدين، والتي نص عليها الفقهاء في القديم والحديث.

إن الإسلام يا سادة هو دين العدل والتسامح والتعايش بين بني البشر، والتعاون على البِرِّ والتقوى، ولا يَنهى عن الإحسان إلى الناس، مهما اختلفت أديانهم وألوانهم وأوطانهم، ويَصون كرامة الإنسان وحريته في الاعتقاد، والعيش الحر الكريم، فهذا رسول الله في جماعة من أصحابه وأنصاره، وهم مائة وثلاثون رجلاً، يُصيبهم الجوع، وقد مسَّت الحاجة إلى الطعام، يَمُر بهم رجل مُشرِك، فيتعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه معاملة حسنة، ويشتري منه شاةً بثمنها، ولا يُكْره الرجل على أن يتنازل عن الثمن أو يُخفِّف منه، والقوة كانت متوافرة لدى النبي صلى الله عليه وسلم، والحاجة كانت شديدة، والرجل كان كافرًا، ولكن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مطبوعًا على العدل، ومجبولاً عليه، ومأمورًا به ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾.

وهذا ما شهد به غير المسلمين، يقول ول ديورانت عن حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، كما في قصة الحضارة «13: 131»: «لقد كان أهل الذمة،المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون، يتمتَّعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد نظيرًا لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكانوا يتمتَّعون بحُكْم ذاتي، يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم»، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه يُوصِي أسامةَ بن زيد وجيشه: «يا أيها الناس، قفوا، أُوصِكم بعشرٍ، فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعقِروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسَهم في الصوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له».