يرى بعض التعريفات الواقعية للثقافة أنها «كل ما يتكون من أشكال السلوك المكتسب الخاص بمجتمع إنساني معين أو بجماعة معينة من البشر»، ومنها تعريف مؤسس علم الأنثروبولوجيا الثقافية الإنجليزي، إدوارد تايلور، للثقافة بمعناها الواسع بأنها «ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل المقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع».

في علم الاجتماع ومجال الدراسات الاجتماعية هناك ما يسمى في الثقافة «العموميات الثقافية»، وهي السمات العامة للعناصر الثقافية المشتركة التي تسود أفراد المجتمع، وتعطي المجتمع وحدته التي تتمثل في وحدة المشاعر ووحدة العادات والتقاليد والممارسات التي يشترك فيها الأفراد مثل الشعائر والمعتقدات الدينية واللغة، وهي عامل من عوامل التماسك للمجتمعات.

وهناك ما يسمى «الخصوصيات الثقافية»، وهي العناصر الثقافية التي تؤدي للتمايز بين الأفراد دون أن تتعارض مع التجانس الثقافي العام، حيث إن الموقف الواحد تتم معالجته بطرق وأنماط ثقافية متنوعة تختلف من مجتمع صغير لآخر، وكذلك من شخص لآخر، وهذا التجانس العام يعتمد، إلى حد كبير، على التناسب بين العموميات والخصوصيات، وعندما تكبر وتتسع الفجوة بينهما، وتظهر تغيرات مربكة في بعض العناصر، يضعف التكامل ويؤدي لتوترات ومقاومة شديدة لهذه التغيرات، وتظهر هنا حاجتنا لما يسمى «التكامل الثقافي» المعني بحفظ الكيان العام للسمات الثقافية العامة، وهذا التكامل يكون بدرجة كبيرة في المجتمعات التقليدية (غير الصناعية)، لتشابه القيم بين أفرادها، ولأن درجة التغير الثقافي فيها ضعيفة جدا بعكس المجتمعات الصناعية ذات الثقافات المتعددة. يرى عالم الاجتماع «لان روبرستون» أن التوترات التي تحدث في الثقافة عموما ترجع لعاملين مهمين: أحدهما هو التعارض الموجود بين الثقافة الواقعية والثقافة المثالية، فـ«الثقافة المثالية»، كما يقرر، تظهر من خلال القيم والمعايير التي يؤمن بها الناس، أما «الواقعية» فهي التي تظهر في سلوكهم وتصرفاتهم على أرض الواقع. وضرب «روبرستون» مثلا بأن الناس في الولايات المتحدة يؤمنون بالمساواة ومع ذلك نجد في واقعهم نوعا من التمييز العنصري. أما العامل الثاني فيتمثل في وجود بعض الجماعات (الثقافات الفرعية) التي لا تشارك مشاركة كاملة في ثقافة المجتمع السائدة، ولها قيمها ومعاييرها وطرق تفكيرها وأسلوب حياتها الخاص، وبمعزل عن المجتمع الكبير، ومنها «الثقافات المضادة»، وهي ثقافات فرعية يمثلها بعض الجماعات، والتي كذلك لها أسلوب حياتها الخاص، ولكنها الأخطر على المجتمع، كما يصنفها الاجتماعيون، حيث إنها جماعات تتميز بمعارضتها الشديدة الثقافة السائدة، وتختلف معها إلى حد كبير. ما نراه في عالمنا اليوم، وما يحدث فيه من اضطرابات في المجتمعات المختلفة، يؤكد لنا وجود مثل هذه «الثقافات الخاصة» التي تتباين في توتراتها ما بين الاختلاف في وجهات النظر والتفاصيل الخاصة بالقيم والمعايير العامة، التي تؤدي للسب والشتم والاتهام بالفسق والزندقة والضلال - كما في بعض مجتمعاتنا العربية - وما بين توترات شديدة تؤدي للعنف والقتل والذبح والتخريب - كما حدث أخيرا في فرنسا. وهنا يأتي دور السلطات العليا في الحكومات، لمحاولة التخفيف من حدة هذه التوترات بما تراه مناسبا، والتي يهمها في المقام الأول ضمان أمنها واقتصادها، وكل ما يحقق المصلحة العامة من خلال مجاراة الخيارات المجتمعية المناسبة، وإجراء بعض التغييرات، وإدماج بعض المتغيرات ببعضها أو فرض الأنظمة والقوانين التي تتماشى مع دساتيرها وتوجهاتها العامة، وفرض العقوبات كذلك على من يستحقها، لتحقيق التوازن بين مكونات المجتمع الثقافي سواء تلك المؤيدة الثقافة السائدة أو تلك المعارضة لها، من خلال إحداث التوازن والتكامل الثقافي الذي يؤدي للانسجام بين الثقافات المتعددة كما تقدم، ولضمان البقاء والاستمرار للكيان العام للثقافة ككل بكل مرونة وتعايش وتسامح يحتوي الجميع.