(في عام 1957، قدَّم الفرنسي بول تيتجين Paul Teitgen الذي كان يعمل أمين سر في محافظة الجزائر العاصمة، استقالته من منصبه، حيث كان أيضاً سجيناً في ــ المنفى الألماني ــ داشو، وقد عزا سبب استقالته إلى رؤية آثار التعذيب على أجساد السجناء الجزائريين، والتي تتشابه مع تلك التي لا تزال تشوه جسده عندما كان نزيلاً في أقبية الجستابو بمدينة نانسي سابقاً) ص 240 من كتاب (الأمل والذاكرة ــ خلاصة القرن العشرين لمؤلفه تزفيتان تودوروف.

هل يعيد الظلم نفسه؟ سؤال وجداني ما لم نعد السؤال من جديد من خلال تحديد معنى (الظلم) فما هو الظلم؟ هل هو هيمنة القوي على الضعيف، وإن كان كذلك فكيف أصبح القوي قوياً والضعيف ضعيفاً؟ وهل الضعف والقوة مسائل تحدد الحق مع من؟ لأننا نرى في السياسة الدولية مقدار الحق الدائم مع القوة، بخلاف الباطل الذي يتلبس الضعيف حتى لو أسقط أكبر أبراج للتجارة في العالم، فسيبقى ضعيفاً في نظر العالم، لكنه ضعيف مسعور، والسعار ليس ضعف، بل مرض أيديولوجي يصنفه العالم (إرهاباً).

القوة تأتي من أدوات تشبه أدوات غاندي في مقاومته للاستعمار البريطاني، غاندي الذي تعلم المحاماة في بريطانيا وقاتل مع الجيش البريطاني، ومع كل هذه الاستحقاقات يفاجأ فإذا به لا يستحق العربة الأولى مع البريطانيين الأنقياء، إذاً من حقه أن يستقل ما دام ليس مواطناً بريطانياً كامل المواطنة، وبنفس لغة وقانون بريطانيا يناضل، ليحرج بريطانيا أمام نفسها قبل أن يحرجها أمام العالم.

القوة تأتي من إصرار يشبه إصرار نيلسون مانديلا في مقاومته للتمييز العنصري، مانديلا الذي لم ينتقم من سجانيه عدى أن ينتقم ممن حاكموه، فبهذه الروح أصبحت جنوب إفريقيا هي ما نعرف الآن كإحدى درر إفريقيا في الازدهار الاقتصادي.

غاندي سليل عريق في القارة الهندية، نيلسون مانديلا سليل عريق في القارة الإفريقية، لم يحتاجا إلى رجل ذي عينين زرقاوين كي يتعلما منه معنى الحضارة فقد يخطئان الطريق الحضاري فيصبحان فاشيين أو نازيين أو ستاليين. هندي وإفريقي أعطيا دروساً للعالم المتحضر في معنى الحضارة والإنسانية.

الروح السامية الخالدة لا تشترط عرقاً ولا ديناً، لكنها تشترط إحساساً عميقاً بالإنسانية، ولن تكتمل إنسانية المرء ما لم يتألم لذكرى (الدماء التي استحلتها الصهيونية) من أجل وهمها الأيديولوجي كما يتألم لذكرى (الدماء التي استحلتها النازية) سواء بسواء.

الحكاية التي وردت في كتاب تودوروف يحتاج إليها كل إنسان ذي ضمير في إسرائيل كي لا يعيد إنتاج الدياسبورا بحق الفلسطينيين، كأنما الضحية اليهودية على يد هتلر تعيد إنتاج النازية على رؤوس الفلسطينيين، وفي ذلك عجز عن إيجاد واقع مشترك استطاع نيلسون مانديلا الوصول إليه مع العرق الأبيض الطارئ في أرضه السوداء، دون تهجير أو انتقام.

الحكاية التي وردت في كتاب تودوروف يحتاج إليها كل إنسان عربي ليستطيع الارتقاء بآماله في قريته ومدينته ومحافظته ومنطقته ودولته فيبتعد قدر الإمكان عن ما يدنس شرف إنسانيته متسامياً إلى أقصى ما حققته البشرية في نماذجها الحضارية على المستوى الإنساني الحديث (غاندي، مانديلا).

صدام حسين عاش يريد محاكاة ستالين، القذافي أشد غروراً من موسوليني، وعندما جاء الربيع العربي عجز العرب عن الصعود بثوراتهم إلى مستوى (العدالة والتسامح)، فاتجهوا بها إلى مستوى (الانتقام البريري) لنرى نهاية القذافي التي تأباها الكرامة الإنسانية (مهما فعل)، فعقدة ستوكهولم مرض نفسي يجعل المصاب به يدافع عن المجرمين، لكن الإنسانية تدافع عن المنهج الإنساني في الحفاظ على كرامة المجرم، فالإنسان بغير السمت الحضاري ليس سوى ضبع يبدأ بأكل المؤخرة والضحية حية.

الجروح في الجسد العربي قاتلة منذ عقود، ومن المفارقات أن أحد أسباب نجاح بايدن ضد ترامب تعود إلى تعب أمريكا من الانقسامات والتشظيات التي اصطنعها ترامب داخل أمريكا في أربع سنوات فقط، كل هذا وأمريكا ما زالت سيدة العالم، أفليس من حق العرب تنفس بعض الهدوء ولملمة الجراح خلال السنوات المقبلة بدلاً من مزايدات دينية أو قومية خلال عقود، مضغتها الأجيال الشابة حتى تقيأتها دماً وما زال البعض يسعل بهذا الدم وما زال يكابر، فإلى متى يا أمة رقصت على قصائد أبي القاسم الشابي، وتركت حكمة مالك بن نبي؟ إلى متى هذه التقدمية المتحضرة في الأهداف، والرجعية المتوحشة في الوسائل؟