على مدى أشهر مضت، والمتحدث باسم وزارة الصحة، يعيد علينا مراراً وتكراراً، ضرورة ترك مسافة بينك وبين الآخر حفاظاً على صحتك، وقد غضب الكثيرون من هذا التفصيل المهم، فوقعوا في المحظور وكانوا عرضة لنقل أو استقبال المرض.

إدارة المسافات فن قديم/ حديث سمعناه كثيراً، والبعض لم يلق له بالاً، فتجرع المرارة وذاق الألم، فالواجب علينا في الكثير من أمورنا الحياتية، أن نترك مسافة بيننا وبين أيٍ ما كان.

حين تعجبنا صورة ما ونراها جميلة، تظل جميلة طالما بيننا وبينها مسافة، ولكن حالما نقترب وندقق النظر، نكتشف الخفايا والعيوب التي سترها بعد المسافة.

وكذلك في الحياة كلما اشتد قرب الوالدين من أبنائهم لدرجة الالتصاق، ضاق الأبناء وشعروا بالاختناق والرغبة في البعد، والحصول على بعض الحرية، الحب لا يعني الالتصاق، فيخطيء من يظن أن القرب الشديد يعني الحب.

ومن الجميل أننا حين نكتب لا بد لنا من ترك مسافة بين الكلمة وأختها، وهذا فن بلاغي إن لم نراعه في كتاباتنا، فقد يفهم الكلام بشكل خاطيء.

وفي فن المسافات نرى العجب، فالمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة وتكامل، إلا أن كل كوكب يبعد عن الآخر مسافة محددة، ولو عدمت تلك المسافة لاختل نظام الكون، وكذلك الشمس خلقها الله بعيدة عنا بمسافة محددة، ولو اقتربت أكثر لاحترق كل ما تحتها.

إدارة المسافات نمط حياة لا بد منه، ولكن بحسن تصرف وإدارة منضبطة، فلا البعد الشديد ينجح ولا القرب الشديد يروي.

وسأختم حديثي بقصة رمزية ذكرها الفيلسوف الألماني «شوبنهاور» تقول : «إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمدة طلباً للدفء، وهرباً من الجو الجليدي شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها، ما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة تجمد أطرافها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها!.. بقوا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وصقيع الابتعاد، إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة التي تقيهم من برودة الجو الجليدي، وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب».