(يجب احترام التخصص) ما دام هذا المتخصص قد حاز بعض الاطلاع على (فلسفة العلوم)، فبهذا الاطلاع يمتلك القدر الكافي والضروري من (التواضع المعرفي) الذي يخرجه من دائرة (الدوغمائية) التي تحيل (تخصصه) إلى إيديولوجيا سامة لا علاقة لها بعلم الأفكار المحايد.
لنتخيل حزبيا ينتمي إلى فكر متطرف إقصائي ويعمل أكاديميا في قسم العقيدة في إحدى الجامعات، ثم تجده يغذي الطلاب وعبر الكتب التراثية (المحايدة في ذاتها تاريخياً) ما يجعله ضمنياً يكفر البلاد والعباد من الخليج إلى المحيط، ليعيد إنتاج كل المعارك الدموية باسم العقيدة قبل ألف عام، كحالة حاضرة وناجزة يمارس خلالها الإسقاطات الفجة، وعند مناقشته في هذه الإسقاطات يصر على ضرورة (احترام تخصصه)، ولأنه استحضر الماضي كأنه يراه، فمن حق الناظرين إليه أن يستشعروا فيه ما قرره بنفسه وعاشه بعقله من البقاء في الماضي وإسقاطاته، ليصبح اتهامه بأنه من (الخوارج الجدد) أكثر مصداقية من اتهامه لغيره ممن (يعيشون فكراً وواقعاً مع عصر الإنترنت والعولمة والحداثة).
بقول آخر: لو أن هذا الأكاديمي (المتخصص) اطلع أثناء مشواره الأكاديمي على جملة من المعارف التأسيسية في (تاريخ الأديان، علم اجتماع الدين، علم الأديان المقارن، علم نفس الدين، علم أنثربولوجيا الدين/علم إنسان الدين، فلسفة الدين) فهل سيكون بنفس الوعي الماضوي المزيف الذي يجعله حبيس صراع الثنائيات القديمة التي تنتج صراعات حديثة تخالف المنطق يسمونها (صراع الأصالة والمعاصرة)، فالأصالة بسبب الجمود ماضوية جامدة يصرون على إقحامها في معطيات القرن الواحد والعشرين لاعتبارات تسطيحية تقفز على مضمون تاريخي فلسفي حضاري، فالآيباد في نظرهم الذاتي ليس إلا امتدادا بسيطا للوح الكتاتيب الذي تركوه في مسجدهم القديم وجاء الغرب وسرقه ثم طوره وأعاده إلينا، بينما هو في الأصل لنا، غافلين عمداً أو جهلاً عن الصيرورة التاريخية منذ أربعمائة عام مع ديكارت وفرانسيس بيكون التي قفزت بالإنسانية إلى شكل مختلف جذرياً عن حياتنا الحالية.
بقول آخر: لو أخذنا شخصا يحب الترحال من مواليد عام 300 ميلادي وأدخلناه إلى عام 1000 ميلادي أو حتى 1400 ميلادي فلن يشعر باختلاف (جذري) في شكل الحياة من حوله، وسيتناغم معها بوقت قصير، وسيمتطي أقرب حصان يجده ليكمل رحلته حول العالم، لكن لو أخذنا هذا الشخص وأدخلناه إلى عام 2000 فسيعيش تماماً كالمعتوه.
(التخصص) دون إدراك لأبجديات (فلسفة العلوم وتاريخها) ليس إلا (دوغمائية) تستر نفسها بأكاديمية معطوبة تفسر لنا لماذا هذه الجامعات على طول الوطن العربي وعرضه لم تصنع أثراً نهضوياً باستثناء بعض الأسماء الأكاديمية (الثائرة في حقيقتها على المؤسسة الأكاديمية)، والتي تؤكد القاعدة في أن كلمة (التخصص) في الوطن العربي تثير الارتياب أكثر مما تحفز على الإبداع.
قد يقول أحدهم: (التخصص) في مجال العلوم الطبية مثلاً لا علاقة له بفلسفة العلوم كما للتخصصات النظرية، لكن كيف لإنسان عاقل أن يحترم تخصص (عبدالمجيد الزنداني) في الصيدلة وهو يرفض أن يعيش في المعمل ويوطن نفسه على ساعات طويلة يمضيها في (المختبرات الطبية)، وبدلاً من ذلك تجده في كل مكان من الحزب إلى الشارع إلى الجامع إلى كل مناسبة سياسية واجتماعية، باستثناء أن يمضي معظم وقته في المختبر والمعمل مع الارتباط بمراكز الأبحاث الرزينة، لكن ساعة واحدة في المختبر مع الأدوات والأجهزة الطبية لن تكون ممكنة مع عمامة الرأس، تلك العمامة التي جلبت له من الغوغاء ما لن تجلبه نوبل في الطب لكل الفائزين بها طيلة تاريخها.
(التخصص) في العلوم النظرية سيخنق مثلاً (اللغوي البليد) داخل فضاءات ابن جني وابن خروف، عاجزاً عن التطور التاريخي الحاصل في فلسفة اللغة، بينما إسرائيل - مثلاً - استطاعت استعادة العبرية وإحيائها في جامعاتها كلغة رسمية، لكن الإحياء لم يُطرح في إطار (دوغمائي)، لكنه مطروح وفق إطار (حرية أكاديمية)، تلك الحرية التي يعجز عنها كثير من الجامعات العربية، (الحرية) في النقد البناء والحرية في الدراسة الموضوعية هي التي تعطي كلمة (التخصص) قيمتها العلمية الرزينة، وبدونها فليست سوى دوغمائية تستر عريها بكلمة (تخصص)، (الحرية) هي أيقونة الإبداع الأكاديمي التي يعرفها الإسرائيليون جيداً، ولهذا تجد في جامعاتهم عالم اجتماع يدعى (باروخ كيرنلنج) (يقدم نظرية للصراع العربي الإسرائيلي، تقوم على فكرة أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية، وما فعلته في فلسطين، هو في واقع الأمر ما فعلته الحركات الاستعمارية في أماكن أخرى من العالم.... وطرحه في أجواء أكاديمية صهيونية طاغية، اعتبر أمراً هاماً، ويحظى كيرلنغ الذي يحاضر في الجامعة العبرية باحترام... يقدم محاضرته جالساً يتحدث بما يشبه الموجات الصوتية، تقوم مساعدته بتحويلها إلى كلمات إلى الطلبة).
(التخصص) كلمة ثمينة ومهمة تحتاج إلى (فلسفة علوم) وقبل ذلك نحتاج إلى (حرية أكاديمية) تستطيع استيعاب أمثال سعيد السريحي قبل أن نفهم متأخرين ما قاله خلف بن هذال (من دون صهيون بذتنا صهاينا).