ليس سهلا إيجاد شعب غارق في العنصرية القومية كالأتراك. وتبقى المقارنة صعبة، لأن الأتراك بلغوا أعماق هذه العنصرية، بمستويات تجاوزت المنافسة.

ولو بقيت هذه العنصرية في نطاق الأتراك أنفسهم، كعامل تحفيز لأبنائهم نحو خدمة بلدهم، لما أدت -ربما- إلى مشكلة جوهرية بالنسبة لغير الأتراك، لكن هذه العنصرية التركية تحولت إلى غول معادٍ لكل ما هو غير تركي، ولكن ثقلها ظل يتراكم نزولا فوق الهوية الكُردية والأكراد.

وفي هذا المضمار، تجوهرت في الأتراك حساسية مكتسبة، تجاه أي شىء يمت بصلة إلى الكُرد، كحساسية الثور الإسباني تجاه الراية الحمراء. وفي هذه العنصرية المقيتة، فإن الإسلام هو أضعف حلقة، بالرغم من تظاهره الجم في الصورة التركية لدى العرب والمسلمين.

من الممكن أخذ تعامل الأتراك مع الأكراد كقياس لهذه العنصرية العرقية التركية، وضربها بالإسلام عرض الحائط. تحيط بتركيا دول و قوميات معادية للأتراك، أقلها عداءً، هو الذي لا يرجو لتركيا خيرا.

فاليونانيون و البلغار والروس والأرمن، ووراءهم أوروبيون شرقيون وغربيون، والإيرانيون الشيعة، لديهم عداوات تاريخية ونزاعات دم وحقوق مع الأتراك.

حتى أن مكونات عرقية و دينية داخل تركيا، لا تكنّ للتاريخ العثماني غير الكره و الحقد.

من هذه المكونات يأتي العلويون في المقدمة، ثم اليونانيون و المسيحيون بشتى طوائفهم. في الواقع، الأقل عداءً للأتراك هم الأكراد، بسبب دور الكُرد الكبير في الدولة العثمانية، على صعيد القيادات العلمائية والقيادات العسكرية.

فهذان الجانبان، هيمن عليهما الكُرد في الدولة العثمانية عبر التاريخ. المفارقة الغريبة هي في ردة فعل الأتراك تجاه الشعب الكُردي. ففي أي مكان في تركيا، ولدى الأتراك عموما، إذا ما قال شخص ما إنه أرمني أو يوناني، أو إيراني أو أوروبي، فلا يثير ذلك ردة فعل ملحوظة وعدائية من قبل الأتراك. لكن بمجرد أن يقول أحد ما إنه كُردي، فإن أقل ما يمكن مواجهته هو عدم الارتياح والنفور.

أما كلمة كُردستان فتعرّض قائلها إلى الضرب والشتم، من قبل عوام الناس قبل السلطات الرسمية.

ولا يتوانى حتى التركي الذي لا يعرف شيئا عن الإسلام و أحكامه، ناهيك عن تطبيق أبسط التزاماته، أن يطلق كلمة كافر على الأكراد، ليبرر حقده العنصري الدفين وعداوته التي تغلي كالبركان في أحشائه.

لكن المصيبة الأعظم هي في الإسلاميين الأتراك، وفي شيوخهم ودعاتهم، الذين تتجسد فيهم هذه العنصرية بشكل أجلى وأعمق.

ومن هذه النماذج يأتي إحسان قاسم الصالحي في المقدمة، بالرغم من كونه تركمانيا وليس تركيا «ترعرع على أحقاد غليظة إزاء الكُرد منذ طفولته»، لكنه يستميت في نصرة الطورانية التركية، خلف قناع الإسلاموية التي تدعي أنها عابرة للقوميات.

والدافع الأساسي لهذا هو الحقد والعنصرية العرقية. استطاع إحسان قاسم الصالحي أن يخدع شرائح واسعة، ليس بين العرب وحدهم، بل وحتى بين الكُرد أنفسهم، نظرا لتورطه في تزوير وتشويه صورة العالِم الكُردي بديع الزمان سعيدي نورسي.

فقد قام إحسان قاسم مع مجموعة عنصرية من الإسلاميين الأتراك، بتحريف رسائل النور، حيث حذفوا كل الكلمات والأسماء والجمل، التي وردت فيها عبارات من قبيل الكُرد وكُردستان، أو الأوصاف الجميلة في ذكر خصال الشعب الكُردي، و ذكر مساوئ الأتراك، و مدنهم وابتعادهم عن جوهر الدين و عروته!

هذا الأمر دفع باحثين كُردا إلى ترجمة رسائل النور من النسخ الأصلية غير المحرّفة، ويأتي في مقدمة هؤلاء الباحثين العلامة ملا محمد زاهد الكُردي، والدكتور شكري أصلان و الباحث الأكاديمي حسين سيابند أيتمور، الذي ألّف مجلدا من حوالي 800 صفحة بعنوان «التحريفات في رسائل النور».

يستطيع القارئ العربي مراجعة ورقة بحثية بعنوان «سعيد نورسي المفترى عليه» 1 ليكتشف الكم الكبير من التزوير والتحريف، اللذين قام بهما باحثون أتراك يتشدقون بالإسلام.

دعنا نشير إلى ثلاثة أمثلة بسيطة في هذه التحريفات:

في النسخة الأصلية لرسائل النور، يقول بديع الزمان

1- «أما موقفنا من جيراننا الأرمن الذين ساهموا في وعي الأكراد نحو الحضارة والرقي، فسنكون سالمين لهم إلى أقصى حد»

2- «كنت أرى أن وضع الشعب الكُردي بكُردستان في أسوأ ما يكون، وكنت أؤمن بأن حضارتنا نحن الكُرد إنما تأتي من طريق العلوم الحديثة، وكذلك كنت على يقين أن هذه العلوم يجب أن تدخل إلى كُردستان عن طريق المدارس، وبأيدي وحكمة العلماء والحكماء، حتى ينشأ في الشعب الكُردي أنس بهذه العلوم، وذلك لأن زمام الشعب الكُردي مازال بيد العلماء»

3- «وها أنا ذا منذ عام ونصف أعمل هنا لأجل نشر المعارف في كُردستان، كما هو معلوم لدى أهالي إسطمبول».

لنرى كيف حرّف إحسان قاسم الصالحي وأمثاله من الطورانيين الأتراك، الذين يتسترون بعباءة الإسلام، هذه النصوص وغيرها كثير. في النسخة المحرّفة من رسائل النور لإحسان قاسم الصالحي، تم تحريف هذه النصوص الثلاثة كالآتي:

1- «سنتعاون ونتصادق يدا بيد مع الأتراك، وهم إخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب -من جهة- لإيقاظنا من غفلتنا، ودفعنا إلى سبيل الرقي»

2- «كنت ألمس الوضع الردىء لما كان يعيشه أهالي الولايات الشرقية، فأدركت أن سعادتنا الدنيوية ستحصل بالعلوم الحديثة الحاضرة، وأن أحد الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتما المدارس الدينية، وحيث إن زمام الأمر في تلك البقاع التي أغلبيتها الساحقة أُميون بيد العلماء»

3- «فأنا منذ السنة ونصف السنة أسعى هنا لتنال بلادي المعارف والعلوم، وأغلب الأصدقاء في إستانبول على علم بهذا».

هذه التحريفات طالت تاريخ هذا العالم الكُردي من كل جانب. فقد نسبوه زورا وبهتانا إلى أهل البيت، وتم التركيز على هذا الانتماء المزور بكثافة، لتخفيف هويته الكُردية ورميها إلى أتون الإهمال والضياع.

ومن ثم، تم التركيز على تحريف تاريخ بديع الزمان في نضاله من أجل الشعب الكُردي ومحبته لهم، فقد صوره إحسان قاسم الصالحي وإخوته في العنصرية الطورانية والتزوير، كخائن و متخاذل مع الشعب الكُردي، وكمطيع وموال للأتراك وحكوماتهم!

أحد هؤلاء الذين ساهموا مع إحسان قاسم الصالحي في هذا التزوير المتعمد والتشويه الظالم، هو أورخان محمد علي «تركماني من كركوك».

هذا التحريف أدى إلى خلق كراهية شديدة بين الأكراد ضد بديع الزمان، وصولا إلى سبه وشتمه، بل واتخاذ مواقف عدائية تجاه الإسلام نفسه، نظرا لأن الأكراد عرفوا بديع زمانهم، عن طريق مبغضيهم الأتراك، الذين ينصبون العداء للكُرد وهويتهم!

اتصلتُ بإحسان قاسم الصالحي وشرحت له الأمر، أنّ ما قام به من تحريف و تزوير خطيرٌ من جهة تشويه تاريخ بديع الزمان ونتائجه في التأثير السلبي في إيمان الأجيال المتعاقبة للشعب الكُردي، ناهيك عن خلق عداوة وكره بين الأكراد، تجاه علَمٍ كبير من أعلامهم بل وتجاه الإسلام، وهذا ظلم كبير اقترفتموه.

كنتُ أعتقد أن هذا الأمر سيقلق إحسان قاسم الصالحي خوفا من آخرته «فهو في نهايات عمره» لكنه بدا غير مبالٍ، بل وربما كان سعيدا بهذا الأمر، لأنه حقق مراميهم الدنيئة في محاربة الشعب الكُردي بكل الوسائل والطرق.

وتيقنت أن ما يسعدهم، هو ابتعاد الأكراد عن الدين، ليشفي غليلهم وليكون ذلك دليلا في أيديهم علي إدانة الشعب الكُردي، الذي يكفره حتى ملاحدة الأتراك !

وهذه الشرذمة العنصرية صورت الأكراد كمتعاونين مع الأوروبيين ضد الدولة العثمانية، مع أن الأكراد كانوا تقريبا وحدهم في الميدان ضد الغرب، عبر ثورة الشيخ سعيد بيران المسلحة و ثورة بديع الزمان سعيد نورسي الإيمانية و الفكرية.

وعلى العكس تآمر الأتراك ضد الدولة العثمانية، وسلكوا سبل الاتحاد والترقي وجمعية تركيا الفتاة ومن ثم أمسى أتاتورك «أبو الأتراك» إمامهم وأباهم الروحي في شتى مجالات الحياة، وما زالت الغالبية العظمى من الأتراك تقدسه أيما تقديس، بالرغم من عداوته وكرهه للإسلام و العثمانيين.

أتاتورك، ومن ثم خلفاؤه من بعده من الذين مضوا على سنته العنصرية التركية، أبادوا واغتالوا ورحّلوا حوالي أربعين ألف عالم كُردي في غضون عقد من الزمان، ومن بينهم بديع الزمان سعيد نورسي.

باختصار، عذب الأتراك نورسي وعلماء كردا في شمال كُردستان، وقتلوهم وشردوهم، ثم حرّفوا تاريخهم وقلبوا نضالهم من أجل الشعب الكُردي إلى خدمة للأتراك، لم يكن لها وجود على الإطلاق، إلا في التحريفات التي قامت بها المؤسسة الأتاتوركية الطورانية بمعاونة الإسلامويين الطورانيين، أمثال إحسان قاسم الصالحي وإخوته في التحريف والعنصرية والظلم.

فالنظام العنصري التركي لم يستهدف إلغاء الأكراد جسديا، بل وعلى جميع مستويات الوجود الإنساني، من هوية ودين وثقافة وعادات وتقاليد.