في أقصى بقاع الأرض، شهدت - مطلع الشهر الجاري - فنزويلا، إحدى أكثر دول أمريكا الجنوبية بُعدا وانفصالا عن العالم الخارجي، انتخابات رئاسية، قاطعها جُل أحزاب المعارضة، وانقسم الشارع بين مؤيد ومعارض للتحالف الذي يتزعمه الرئيس الحالي.

في المُحصلة، كما يبدو بقي نيكولاس مادورو هو المُتسيد والرئيس.

«مادورو»، الذي طالب يوما ما العالم بأسره بالالتزام بمواثيق الأمم المتحدة، لضمان السلم العالمي، مهما «هددت الإمبريالية الأمريكية بعدوانها وإرهابها» – حسب قوله، بقي في منصبه بصرف النظر عن المؤشرات المعارضة بقاءه بسدة الحكم في ذلك البلد المحكوم بالبركة.

آمن بالنتائج من آمن بها وصدقها، وعارضها من عارضها خارج الحدود أو داخلها. ربما يطغى الجزء الآخر من شخصية "مادورو" الشعبوية على شكل الرئيس، ولذلك عدة مُبررات وأسباب.

لا يهمني من ينتصر على الآخر في انتخاباتٍ تشهدها دولة يفصلني عنها آلاف الكيلو مترات، إلا أن في المشهد ما يمكن أن يكون لافتا ويدعو للغرابة، إذ تحولت أزقة الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية (بيروت) «معقل ميليشيا حزب الله» إلى «ساحات دبكة»، احتفالا بفوز ذلك الزعيم في الطرف الآخر من العالم، حتى بعض الجامعات اللبنانية بدلت وجهها من مقار تعليمية إلى ساحات للهز والرقص، شكلتها الأذرع الطلابية التابعة والمؤيدة «حزب الله» أو «محور المقاومة» فيما يُسمى «فاعليات»، للسبب نفسه، وكأن «مادورو» دخل قصر بعبدا اللبناني من أوسع أبوابه!.

أتفهم أن دافع الفرحة الغامرة في الضاحية الجنوبية هو صداقة الرجل الحميمية بزعيم ميليشيا «حزب الله»، حسن نصرالله، حيث إن تلك العلاقة معروفة، وهي محل فخر له وللحزب ومؤيديه، والتي تنامت بعد تقديم الحزب الدعم المطلق له ولعائلته، بالإضافة لاستعداد الحزب لإرسال عناصر من ميليشياته من أجل حماية المقار الرسمية الفنزويلية بعد محاولات المعارضة الاستيلاء على الحكم، ومن حينها نشأ التحالف المزعوم بين الميليشيا وبينه. ومن ذلك يُمكن فهم تطابق الذهنية السياسية بينه وبين جمهورية ولاية الفقيه إذا ربطنا الأمور بعضها ببعض.

ومن هذا الجانب يُمكن لنا استيعاب أن شعار «طريق تحرير القدس»، الذي تزعمه طهران، والمفروض مروره ببغداد والضاحية الجنوبية في بيروت ودمشق وصنعاء، بالضرورة أن تكون العاصمة الفنزويلية (كاراكاس) إحدى محطات التحرير.

وإذا ما بحثنا في شخصية «مادورو»، فسنجد أنه لا يُخفى أنه أحد أبرز مؤيدي ما يُعرف بـ«محور المقاومة»، الذي تشكله طهران و«حزب الله» وحركة «حماس» المتطرفة في غزة، وبعض الإرهابيين في الشرق الأوسط.

وعطفا على ما سبق يُمكن إدراك تعنته الشديد في مواجهة طبيعة السياسة التي تفترض حياة سلسة في العالم بكل فئاته، الأول والثاني والثالث، وربما السابق واللاحق.

ويُعرف عن «مادورو» أيضا، وهو الذي قدّم نفسه بعد وفاة الزعيم الروحي الفنزويلي هوغو تشافيز كسائق حافلة، كنايةً عن قدومه لحكم الدولة من الشارع وليس من أروقة السياسة، وبالتالي يمنح ذلك إيحاءً بشعوره بمعاناة المواطن الفنزويلي - أنه ضد قوى ومشاريع الاعتدال أيا كانت وجهتها في العالم.

أعود للحديث عن لبنان.. المشهد نفسه المُضحك المُحزن، ففي لبنان فقط يُعطل «حزب الله» والمتحالفون معه حكومة سعد الحريري السابقة واللاحقة، وتمّام سلاّم، وقبله فؤاد السنيورة، ويفرح لفوز الرئيس في فنزويلا، ويرقص الحزب طربا لعملية يراها انتخابية لا يشوبها شائب في «كاراكاس»، ويدعم انقلاب جماعة إرهابية في اليمن (أنصار الله) على الشرعية. وفي لبنان فقط الدولة أشبه بجمهورية أشباح لسنوات دون رئيس أو رأس يمثل الشخصية أو الهوية العامة لها بسبب «حزب الله» وحلفائه، بينما يحتفلون، في الوقت نفسه، بالعملية الديمقراطية في فنزويلا بعد رحيل «تشافيز»، الذى أتذكر أن وسائل الإعلام التابعة للحزب أفردت ساعات على الهواء مباشرة، حُزنا على رحيله، مثل قناة «المنار»، وقناة «الميادين» التي غردت في حسابها على «تويتر» بعد وفاته بـ«عاش الوطن.. عاشت فنزويلا.. عاش العمال»!. عاشت فنزويلا ومالك القناة تونسيٌ بهوى طائفي، هاربٌ بقضية أخلاقية من الدوحة بعد عمله في قناة الجزيرة «المقيتة» شرق سلوى!.

في لبنان فقط تتباكى ميليشيا «حزب الله» على قدر الخالق في وفاة «تشافيز»، وتحوّل بيروت إلى كتلة نار بعد أن فخخ تابعون له وللنظام السوري مسلك رفيق الحريري كجهنم مُصغرة.

في لبنان فقط تُقام مجالس العزاء، وتشهد تهديدا ووعيدا بالثأر لمقتل الإرهابي قاسم سليماني، الذي أمطر المنطقة بالإجرام، ويسود الصمت عن الوزير اللبناني ميشال سماحة الذي ألقي القبض عليه بعد أنه منحه الحزب غطاءً سياسيا وأمنيا، واستقدم من دمشق مكونات لصنع مفخخات ومواد متفجرة تكفي لنسف بيروت عن بكرة أبيها.

هكذا هو لبنان الدولة في جهة - إن وجدت - والعالم في أخرى، الرئيس يتبع وينقاد لحزب استقوى عليه بفوهة البندقية الإيرانية، وليس العكس، وهو - أي الرئيس - الحلقة الأضعف بدلا من أن يكون قوةً جامعة لكل فئات الشعب، باعتباره تخلى عن مبادئ الإنسانية من أجل أن يتبوأ كرسي الرئاسة.

والجيش، وهو المؤسسة العسكرية التي من المفترض أن يعلو صوتها على كل صوت، بما في ذلك صوت الرئيس، لا يمكنه أن يبلغ مواقع داخل جغرافية الدولة، كونه فاقدا التأييد والاحتشاد الشعبي المبني في الأساس على منهجٍ مذهبي يستند على الخارج.

وفي لبنان النشاز السياسي والسير في خطى مذهبية ومصلحية والانحطاط الأخلاقي هو العنوان العريض، بدليل وصفُ «حزب الله» يوما «احتجاجات طائفية»، قامت على دعم إيراني ضد الدولة في البحرين، بأنها «ثورة ضد نظام جائر في المنامة»!، وهو يُساند، في الوقت نفسه، نظام بشار الأسد في قمع الشعب السوري الذي ثار فعلا على نظامٍ مُجرم!.

أجزم «حزب الله» والمُتحالفون والمؤيدون والمُتعاطفون معه على الثقة بأنهم هم وقضاياهم ونضالهم باتوا أوراقا محروقة في المُحيط القريب، بعد أن أيدوا المجرمين في صنعاء، والقابعين خلف أسوار قصور سعد آباد بطهران، وقصر الشعب في دمشق، لذلك لم يجدوا إلا الهرب لآخر زوايا الأرض، في «كاراكاس»، لتصوير أنهم مؤنِسون ولطفاء المعشر، وهُم أوغادٌ مجرمون.