لقد تساءلت وأنا أقرأ للمعري هذا البيت:

إن حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

ترى لماذا يكون الحزن على الوفاة أضعاف السرور بالميلاد؟

وقلت لعل مرد ذلك ما يتركه (الراحل) عادة من آثار وأعمال تسند إليه من بعده، وتجدد لهم ذكراه، وحتى لو لم يدع سوى (أبنائه) لكفى بوجودهم مثار ذكرى، ومبعث حزن.

أما (الوافد) فالاهتمام به مع بداية حياته، وفي ساعة مولده.. وبين الميلاد والوفاة.. تقع الحياة.. حياتي وحياتك.. (وسط) بين نهايتين، (فاصل) بين عدمين، ينخدع المرء بها فينسى واجباته وما عليه، ويتشاغل معها بالباطل عن الحق، والرذيلة عن الفضيلة، يصرفه الواقع عن المستقبل، والآمال عن الحقائق، تنطلق من حوله أصداء النبوءات، وأقباس الرسالات، فيصم عن خيرها أذنيه، ويغلق عن بشائرها عينيه، ويندفع مع هواء في مظاهرة مجنونة، ومع غرائزه في انطلاقة ماكرة، يرى الحلال ما امتدت يده إليه، والإخلاص ما انتهى به إلى مطامعه وما كسبه، فإذا امتلأت (اليدان) وتحققت المطامع - فالسلام على كل المبادئ والمثل - وصيحات - المخلصين - تعلو وترتفع، ثم يتكالب عليها وعلى مصادرها الباطل وأهله، فتتطامن ولا تخضع، وتصمت ولا تموت، ويشتد الصراع المرادف للحياة.. صراع الخير مع الشر، والحق مع الباطل، والشرف مع الضعة، في واقع صادق لأطوار البشرية المتلاحقة، وتضيق أحيانا بالمخلصين حياتهم، ويشتد بهم واقعهم، ليبتلي الله صبرهم، ويمتحن إيمانهم، وتنجلي عنهم متاعبهم وهم - كالجبال الشامخة - وقد انحسرت عنها هوج العواصف... إنهم هناك في صدر الإسلام.. وهنا في كل زمان ومكان أعلام حق.. ومصابيح هداية.. لا يضيرهم تنكر الناس لهم، أو قسوتهم عليهم، أو تجاهلهم لوجودهم، إنهم آمنوا بالله فاطمأنت قلوبهم، ورضوا بما لهم فاستقرت ضمائرهم.. وتتعاقب المراحل الزمنية على المرء في سرعة عجيبة.. الضعف ثم القوة ثم الضعف والشيبة.

وبدون مقدمات، وفي لحظة قاسية مريرة يقول كل الناس:

رحم الله فلاناً فقد مات!! ويتملكك الوجوم لفقده، والأسى لرحيله، ولكنك لا تستطيع بحال إيقاف نهايته الرهيبة... وتنطوي هكذا وبمثل هذه السهولة المريرة صفحة الحياة.. والأحياء.