كان أحد أصدقاء الصبا، وهو طبيب كبير الآن، ابن لأمين مكتبة الملك فاروق، ملك مصر السابق، وكان الملك أنعم عليه برتبة البكوية، بعد عدة أسابيع من هذا الإنعام، قامت ثورة يوليو، وعزل الملك، والأمين جلس في البيت.

كانوا يسكنون فيلا قديمة على مقربة من مسكني في الكيت كات، وكان لها سور حديدي صدئ، وحديقة صغيرة مهملة، وعندما كنت أذهب إلى هناك، وأثناء مروري، كنت أرى الرجل وهو يجلس مربعا في صدر القاعة الكبيرة يقرأ واحدة من الجرائد الأجنبية، وكنت ألمحه يتابعني بنظارته الطبية أعلى حافة الجريدة المفرودة، وبراءة البكوية معلقة على الجدار، فوق رأسه بالضبط.

كنت نحيلا، وكنت أشعر بالحرج.

في إحدى قاعات هذه الفيلا رأيت أول أضخم كمية من المجلدات في لغات مختلفة، ثم عرفت أن دور النشر التي تزوّد القصر بالكتب كانت تخصص نسخة مهداة إلى أمين المكتبة، وأنه كان يراكمها هكذا فوق بعضها البعض.

هناك أيضا التقيت أول مكتبة للموسيقى الكلاسيك، قوامها جهاز جرندوج كبير ومجموعة هائلة من الشرائط المستديرة، حملناه بمعونة صديق ثالث، وصاحبي اختار بعض الشرائط واتجهنا إلى مسكني وأغلقنا باب حجرتي الصغيرة، كانت هذه السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، وأنا، مع الضربات الأولى شعرت بانزعاج لا مزيد عليه، وأكملت على مضض.

مرت السنون وكبرنا، واستطعت تدبير مجموعة من أجهزة الاستماع ابتعتها تباعا من على عربات يد مركونة في بعض مناحي وسط، كنت دائم المرور عليها، مجموعة قديمة كلها إلا أنها على كفاءة عالية «بيك آب كولارو إنجليزي مجهز لعشر إسطوانات وإبرة ماسية غير قابلة للتآكل، جهاز جروندج ألماني صغير، راديو إنجليي بلمبات ماركة صوت سيدة» وصارت هناك رغبة لتنمية علاقة ما مع هذه الموسيقى الكلاسيك.

مع الوقت تعلمت أن أضع المقطوعة وأجعلها تعمل بشكل مستمر لأيام وأسابيع وشهور إذا اقتضى الأمر، حتى أشعر بأن حركتي الجسدية في حجرتي الصغيرة صارت مفردة من مفردات الإيقاعات الأساسية للعمل، المهم أنني أحببت بعض الأعمال وهي شائعة على أية حال من بينها «عصفور النار» للموسيقي الأمريكي الروسي الأصل «إيجور سترافنسكي 1883 ـ 1971» والتي أدمنت سماعها، كانت ليلة سهرنا فيها على شاطئ الخليج في شاليه رجل الأعمال والقاص الستيني الصديق محمد الشارخ، كان الدكتور فتحي الخميسي الأستاذ بالكونسير فتوار ضمن الرفقة الحاضرة «الأصدقاء علي أبو شادي والرسام جميل شفيق وفتحي عفيفي وجورج البهجوري والبساطي»، لا أعرف ما الذي جاء بسيرة سترافنسكي وعصفور النار، لأسمع ما أثار دهشتي.

علمت أن هذه المقطوعة وضعها سترافنسكي تعبيرا عن أسطورة أو حكاية ريفية موروثة تقول إن طائرا بجناحين مضيئين «وهي ظاهرة علمية معروفة» يتصادف أثناء طيرانه أن يعبر سماء قرية أو أخرى، وهذا يعني، إذا ما حدث، أن في القرية عاشقين، وأنه صار لزاما على الأهالي جميعا أن يبحثوا عنهما، ويزوجونهما.

وأنا عندما عاودت الاستماع إلى عصفور النار، بعدما عرفت الحكاية، واستقبلتها بأذنين مختلفتين، وانتبهت إلى أنه لا يوجد موسيقي كبير إلا واعتمد على مثل هذا الموروث الإنساني المشترك في تقديم معظم أعماله، كما أن قسطا كبيرا من الأعمال المكتوبة اعتمد نفس الشيء «راجع المسرح اليوناني بأكمله مرورا بشكسبير ومئات الأعمال وانتهاء بشفرة دافنشي على ما أظن»، والسؤال الذي يلح، على واحد مثلي في الأقل، كيف أننا نسمع ونقرأ أعمالا تعتمد ميراثا يضاعف ويعمق من قيمتها، بينما نحن لا نعرف عنه شيئا، وهو مشترك ليس معرفيا فقط، بل إنها حكايا وأساطير جميلة في حد ذاتها وبالغة التأثير، وأذكر بالمناسبة، عملا موسيقيا للروسي الكبير تشايكوفسكي، بعنوان «سينجورا» يتكئ فيه على أسطورة أميرة الثلوج، تلك الأمير الفاتنة المجمدة والواقفة هناك على مشارف القرية تراقب العشاق، بينما كتب عليها ألا تحب أبدا، لأنها إذا أحبت دفء قلبها، وذابت.