في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد المرء مخبوءا خلف لسانه كما قيل في المثل السائر، فقد أصبح الواحد منا يعرض نفسه، فكرا، وسلوكا، وثقافة، بقصد أو بغير قصد على شاشات جهازه الذكي، التي أزالت كل الحجب الشخصية، وأفلت معها إنسان اليوم من الغموض والفردية، بل قد يصل به الحال أحيانا إلى اختراق أسراره وفضح مستوره.

ومع الانخراط الرهيب في عالم التقنية، وسيطرتها على مجريات الحياة، فمن الجدير بنا أن نحسن تناول كل المعطيات التي توفرها هذه المنابر، فلم تعد صورة أخلاقنا هي التي نغلفها في محيط العمل بكل جميل، أو في محيط الأسرة والمجتمع بما نفتعله من كاريزما مصطنعة، لقد أصبحنا في لقاءات مكشوفة ومستمرة، وفي لمحة بصر يصبح الشخص مقروءا بمحتواه الذي يصممه أو يختاره لجمهور عريض يتلقف كل شيء دون تغليف. والكل ينتقي ما يروق له، ويميل إليه، فهو يمثله في النهاية، ويعبر عن مساحته الفكرية، وعمقه الثقافي، وسلوكه، وانتمائه، ومحيطه الذي يدور فيه، فكم صامت زانه صمته حتى فضحه بوحه! وعلى المستوى الجمعي هناك ما يثير السخرية كثيرا، ويبعث علامات التعجب، وبعض الاستفهام، خليط وغثاء وهراء، فمتلبس بالوقار يوما ساقط في مساحات التواصل، غارق في سفاهات الجاهلين، تجزم أحيانا أنك مخطئ في قراءة ما صدر عن أحد من تعرفهم، إلا أننا فعلا أمام وسائل أصبحت هي مخابر الناس، ودليل سيرتهم، والراصد الحقيقي لتصرفاتهم وتوجهاتهم، ومصدرا مهما في كشف أسرار مخبوءة خلف أستار مقنعة.

إننا نسخر من أنفسنا حينما لا نفرق بين مثاليتنا وممارساتنا، فالمثالية التي لا علاقة بينها وبين الممارسة صناعة تسويقية، قد تنجح لزمن، لكنها ستفشل بعد حين، بينما ما نمارسه فعلا هو الدليل الحقيقي لأي مثالية ندعيها، وتكمن قدرتنا على طباعة ما نملكه من مهارات وسلوك وأفكار في أذهان الآخرين بقدر ما نعبر به، أو ننتقيه، ونؤمن به عبر هذه الوسائل الطاغية على العصر.

فالمحتوى الذي نصممه هو شخصياتنا، التي تستحق منا حسن الاختيار والعناية، دون الانجراف في مختلف المسارات التي لا نجيدها، فما ذلك إلا إسفاف يزري بنا، ويجب التوقف عنه، وعدم التذرع بأوهام التبرير الفاشلة، بأنه مجاراة للزمن، وسير مع الموجة السائدة، فمن الأولى الانضباط وسط هذا الصخب المرتفع، والتعامل مع هذه الوسائل كأوعية للثقافة، وحاضن للتربية، ومصدر للمعرفة، فهو أمر في غاية الأهمية، كما لو أننا سنؤلف كتابا للنشر لا نرتضي أن يكون محتواه إلا تعبيرا عن منظومة القيم والثقافة والمعرفة التي نمتلكها، وبناء عليه يستطيع القارئ أن يتخذ قراره بجودة المحتوى ولياقته الفكرية، ليدفعه إلى البحث عن سلسلة أخرى لصانع المحتوى، الذي يستحق الاحترام والمتابعة، والنظر دوما بشغف لكل إصداراته، أو الحكم بنبذه كما يحصل في تلك الوسائل من حظر المحتوى، وكتم الإشعارات عن مصادر تلك المحتويات الفاشلة. إنه مخجل جدا ما يدور في أوساط المجتمع الرقمي من مداولات، وخصوصا ممن لهم مكانة في المجتمع، أو رصيد من التربية، أو محسوبون على الوسط الثقافي.