ولدك - أيها الأب - جزء من نفسك وقطعة من قلبك وفلذة من كيانك، وكبدك تمشي على الأرض، ومرآة يرى فيها الناس وجهك وروحك، وكتاب يقرأ فيه الملأ عقلك وخلقك، تألم للنملة تقرصه وللشوكة تشوكه، وفيه وفي عقبه من بعده تتجدد أنت يوما بعد يوم وتتكرر جيلا حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فماذا أعددت له؟ تود لو يكون جسما سليما وعقلا حكيما وخلقا قويما، قاضيا لا يظلم وموظفا لا يرتشي وبائعا لا يغش وتاجرا لا يحتكر وصانعا حاذقا يجمع الأمانة دقة وذوقا ومجاراة الفن الحديث. تود لو يكون مدرسا يسير في مهنته مع الزمن في تطور الأبحاث النفسية والطرق التربوية، لا يضيع أمانته ولا يخون رسالته. توده طبيبا لا يبتز الأموال ولا يزيد الأدواء يأسو جراح الضعيف ويعالج الفقير قبل الغني.

تود لو يكون متعلما يصقله التعليم ويهذبه التثقيف، ويرفعه الله لأنه يتواضع لله ويطأطئ له الجهل رأسه لأنه يطأطئ رأسه للعلم. تود لو يكون أديبا عظيما يحمل مشعل النور ويقود الناس إلى طريق الحق والخير والجمال.

تود لولدك هذا وتود أكثر من هذا فماذا أعددت له؟

تريده إنسانا اجتماعيا خفيف الظل لطيف التأتي أنيس المعشر ذا شخصية قوية ومرونة عقلية ينطلق بها إلى النفوس ويمتزج بالقلوب. تريده نفسا ناهضة لا مجمدا على القديم ولا منغمسا في الحديث وإنما تأخذ من هذا أحسنه ومن ذاك أفضله. تريده عاملا قويا في خدمة الدين والوطن. تريده فكرة لا تصل ولكنها تحارب الضلال، وإرادة لا تستبد ولكنها تصرع الاستبداد، وضميرا حيا لا يحابي ولكنه يناهض المحاباة. تريده قوة كطاقة الذرة ولكنها لا تنفجر إلا للحق والخير في وجه الظلم والشر. تريده أدنى إلى المثل الإنساني الأعلى، تريده خيرا كله وتريده خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيرا. تريد لولدك هذا، وتريد غير هذا فماذا أعددت له؟

هل أنت مثل صالح ؟ هل أنت قدوة حسنة في أقوالك وأفعالك وحركاتك وسكناتك فلا تقع عين طفلك إلا على كل طيب ولا تلتقط مصورته إلا كل فعل جميل ولا تسجل حاكيته إلا كل لفظ مفيد نبيل؟ إن كنت كذلك فهذه أولى الخطوات في بلوغ تلك الغاية.

هل تشرق على ثغرك ابتسامة تملأ البيت نورا والنفس حبورا؟ هل أنت جناح للرحمة تظلل أهلك وأولادك ؟ هل بينك وبينهم تجاوب عاطفي؟ هل يلعبون لعبا ملائما لتطورهم الجسمي والعقلي؟ هل بيتك فردوس أرضي تخفق فيه الأرواح الطيبة وتمرح فيه الأماني العذبة والخلق الزكي ويسري فيه تيار الصحة والمرح والنشاط؟ هل تسود في وجوهه الروح الاجتماعية ويدير مملكته سلطان العدل الرحيم؟ هل يتجلى الذوق والنظام في سير أعماله وترتيب أثاثه فقيرا كنت أم غنيا؟ هل هو سامر كأحسن السوامر العائلية تشيع فيه اللذة الفنية بما يروى فيه من أحاديث وأفاكيه وأقاصيص؟ في كلمة موجزة.. هل هو بيئة صالحة لتنشئة الطفل تنشئة قويمة وإنباته نباتا حسنا؟ إن كان كذلك فهذه ثانية الخطوات.

هل بينك وبين المدرسة تعاون فعلي في تربية ولدك؟ هل أنت معني به؟ وما مظاهر هذه العناية؟ أهي هذا الحنو الذي يتسم بسمة الجهل. أم تلك الرأفة التي تساند على المصلحة والعلم؟ أتتحكم في الطفل أم يتحكم فيك الطفل أم كلاكما خاضع لما عليه الطب الحديث وعلم النفس الحديث؟ هل ترشد أهلك إلى الوسائل الجديدة وتحارب تلك العادات الضارة في تربيته؟ إن كانت هذه الظاهرة فنعما هي وهي ثالثة الخطوات، وإن كانت الأخرى فأحرى بك أن تلتمس الثقافة العامة والثقافة الصحية والتربوية الخاصة من الأطباء والمربين ومن الكتب والصحف والمجلات التي تبحث في الصحة والتربية وعلم النفس، وأحرى بك أن تنتظم في سلك تلك المدرسة التي أزمعوا إنشاءها لمن يود تكميل نفسه من الموظفين وغير الموظفين فلعلك واجد فيها ما يشبع رغبتك ويطفئ غلتك، خاصة إن قبل المشرفون أولئك على وضع برامجها ما أقترحه من إدماج مادة عامة (التربية المنزلية) التي تضم أطرافا متلائمة وبحوثا متكاملة من علوم النفس والتربية والصحة والأخلاق. بيد أن هذا المشروع - للأسف الشديد - لم يظهر بعد إلى حيز الوجود، وسكت أولئك المتحمسون له وطال سكوتهم، فهل له من بعث بعد موت؟ وهل لنا أن نرى هذه المؤسسة بين شهر وآخر تنهض بتكميل هذا النقص، يقصدها طلاب المعرفة وعشاق الثقافة ورواد التكميل، ويكون ظهورها مثلا حيا ودليلا صادقا على تنبه الإحساس الوطني وتيقظ الشعور الجمعي في هذه البلاد؟ إنا لمنتظرون. وبعد فهذا صوت المجتمع يهتف وينادي: «ولدك أيها الأب - جزء من نفسك وقطعة من قلبك، وكبدك تمشي على الأرض وأملك يسعى في الحياة.

فماذا أعددت له؟

وهو يريد منك أن تجيب على هذا السؤال، ويود لو يسمع صوت الدم يصرخ في عروقك - أي صديقي الأب - يستجيب لهذا النداء ويردد مع اللسان أبدا، نعم ولدي، قطعة من نفسي وجزء من قلبي، أعددت له قدوة حسنة وثقافة عامة وأخرى خاصة وعناية فعلية وبيتا أحسن ما يقال فيه أنه عباءة إصلاح ومصنع لتكوين الأخلاق وبناء الرجال.