إن المعلومات السائدة -سابقاً- عن صناعة الفضاء وعلومه، بأنها تأخذ طابع السرية ومقصورة على الدول العظمى صحيحة، إلا أنه قد اختلف الوضع الحالي عما كان سابقاً، فأصبح بإمكان الكثير من الدول الدخول لهذا المجال والتقدم فيه.

ونظراً لعدم نضوج القوانين الدولية -الحالية- في كيفية الاستفادة من مقدرات الفضاء، تأتي أهمية اتباع منهجية سياسية متوازنة، تحافظ على حقوق كل دولة في كيفية الاستفادة من تلك المقدرات، وقد عرف في الآونة الأخيرة مصطلح «دبلوماسية الفضاء» الذي يعد مفهوماً جديداً، للتعبير عن التعاون الدولي في هذا المجال «بحيث يجري تعاون بين مختلف الدول مع بعضها للاستفادة من التجارب، التي تملكها كل دولة والخبرات المتوافرة لديها، للوصول إلى الأهداف المشتركة مع الحفاظ على السلام الفضائي، والابتعاد عما يثير النزاع».

وتكمن أهمية التوسع في أنشطة التعاون الدولي لمساعدة سكان كوكب الأرض العيش في بيئة آمنة وصحية، حيث لم يعد يقتصر التعاون بين الدول على ما يخص موارد الأرض فقط، بل أصبح من المهم أن يكون هناك تعاون في مجال الفضاء والاستفادة من موارده.

واستطاعت المملكة العربية السعودية بدبلوماسيتها، أن تنجح في بناء علاقاتها مع الدول المتقدمة في مجال الفضاء، مثل ما نجحت في علاقتها مع مختلف دول العالم فيما يخص شؤون كوكب الأرض، فقد حرصت بلادنا بشكل دائم ومستمر على تعزيز علاقاتها الدولية في مجال الفضاء وعلومه، وحققت على مدار عقود ماضية، إنجازات عديدة في عدة مجالات فضائية كالاتصالات، والبث التليفزيوني، والرحلات البشرية المأهولة، ومراقبة الأرض، والأبحاث الفضائية.

وظهرت دبلوماسية الفضاء السعودية منذ ما يقارب الأربعين عاماً، كان أبرزها توقيعها لمعاهدة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية عام 1976 وصادقت على معاهدة القمر عام 1979، وواصلت مساهماتها في قطاع الفضاء بدبلوماسية متصاعدة، و كانت في طليعة الدول العربية والإسلامية المهتمة بهذا القطاع، وبنت علاقاتها مع أبرز الدول المتقدمة في الفضاء، وأثبتت وجودها حيث شاركت في رحلة المركبة ديسكفري عام 1985 من خلال صعود الأمير سلطان بن سلمان آل سعود إلى الفضاء ليكون بذلك أول رائد فضاء عربي، بعدها أنشئ المركز السعودي للاستشعار عن بعد في عام 1986وهو الأكبر على مستوى الشرق الأوسط، ومن ثم تم إنشاء معهد بحوث الفضاء والطيران، في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عام 1997، الذي بدوره أكمل المسيرة من خلال انضمام المملكة للمنظمات الدولية، وإبرامه لاتفاقيات مع أبرز الجامعات في العالم، ومشاركته في إنجاز العديد من أبحاث الفضاء التي استفادت منها البشرية، وأخيراً وليس آخراً، توج قطاع الفضاء في المملكة بصدور أمر ملكي نهاية عام 2018 بإنشاء الهيئة السعودية للفضاء، وتعيين الأمير سلطان بن سلمان رئيسا لمجلس إدارتها، مما يضيف للمملكة القدرة على المساهمة في سماء دبلوماسية الفضاء، بقيادة رائد فضاء سعودي.

من أبرز ما تحقق للدبلوماسية السعودية هذا العام 2020 هو قدرتها على استضافة الاجتماع الأول لقادة اقتصاد الفضاء، فقد انتهزت المملكة فرصة رئاستها لمجموعة العشرين في عام 2020 لإيجاد مبادرة استثنائية وتاريخية، لتسليط الضوء على اقتصاد الفضاء كمساهم ومُمكن للاقتصاد العالمي. حيث بلغ حجم اقتصاد الفضاء في دول مجموعة العشرين أكثر من «390» مليار دولار في عام 2019، تتضمن الإنفاق الحكومي وإيرادات القطاع الخاص، وهو ما يمثل «92%» من اقتصاد الفضاء في العالم.

فمنذ استلام المملكة رئاسة مجموعة العشرين في عام 2020، وبحنكتها الدبلوماسية الفضائية، دأبت على إجراء الدراسات، التي أثبتت أنه يمكن لاقتصاد الفضاء، أن يلعب دوراً رئيساً في تشكيل آفاق جديدة للاقتصاد العالمي، وأن يبرز فرصا مميزة يمكن للجميع اغتنامها، فوضعت اقتصاد الفضاء كأولوية ضمن محور «تشكيل الآفاق الجديدة»، حيث نصت على: «تعزيز التعاون في مجال الفضاء»، كما أجريت دراسة على جميع أولويات برنامج رئاسة المملكة لمجموعة العشرين 2020، وتبين وجود «11» أولوية من أصل «22» أولوية يمكن أن يساهم اقتصاد الفضاء في إثرائها.

وعلى الرغم من حساسية قطاع الفضاء، من ناحية تعامله مع تقنيات متقدمة، وأبعاده الأمنية والعسكرية والاستخبارية، وتحفظ الدول على سرية معلوماته، إلا أن المملكة استطاعت جمع رؤساء وكالات الفضاء على طاولة اقتصاد الفضاء لأول مرة، في ظل ظروف جائحة كوفيد -19، حيث تعاملت المملكة مع أولوية اقتصاد الفضاء بدبلوماسية، وبادرت في تنظيم أول اجتماع لرؤساء وكالات الفضاء لدول مجموعة العشرين، وأطلق عليه اجتماع قادة اقتصاد الفضاء «Space20»، مما أعطى للمملكة السبق والاعتراف الدولي، بأنها عرّفت اقتصاد الفضاء على الاقتصاد العالمي في أهم تجمع له، وهذا يشكل موقفا استثنائيا يحفظه التاريخ، سطرته دبلوماسية الفضاء السعودية، ويؤكد جدية المملكة في تطوير اقتصاد الفضاء على المستوى المحلي والدولي.

أقيم اجتماع قادة اقتصاد الفضاء «Space20» افتراضياً برئاسة المملكة بتاريخ 7 أكتوبر 2020 على هامش رئاسة المملكة لمجموعة العشرين، بدعمٍ من الأمانة السعودية للمجموعة، وترأس الاجتماع رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للفضاء الأمير سلطان بن سلمان ، وحضره جميع رؤساء وكالات الفضاء في دول مجموعة العشرين، وشاركت فيه أهم منظمة دولية في قطاع الفضاء «مكتب الفضاء الخارجي بالأمم المتحدة» وأهم منظمة دولية في الاقتصاد «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، ورحب جميع المشاركين بالاجتماع، وأثنوا على المبادرة التي تبنتها المملكة، ونتج عن الاجتماع عدة مخرجات مميزة تمثلت في الآتي:

• إصدار تقرير يوضح توجهات قادة اقتصاد الفضاء في دول مجموعة العشرين ومرئياتهم لمستقبل اقتصاد الفضاء.

• بيان مكتب الفضاء الخارجي بالأمم المتحدة، يتضمن الاعتراف باستجابة اقتصاد الفضاء لمكافحة كوفيد -19، والدور المحوري لاقتصاد الفضاء في إنعاشه والحفاظ على التواصل بين الأمم.

• توصيات من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD» لتوحيد منهجيات قياس الأثر الاقتصادي لقطاع الفضاء.

• التزام دول مجموعة العشرين في استمرار عقد اجتماعات لقادة اقتصاد الفضاء في المجموعة، حيث أيدت إيطاليا ذلك الأمر وستتولى عقد الاجتماع خلال رئاستها القادمة للمجموعة لعام 2021.

وتكمن أهمية عقد الاجتماع - في الوقت الذي تعاني فيه دول العالم من جائحة كورونا وتداعياتها - بالتزامن مع رئاسة المملكة للمجموعة، لتؤكد حرصها على قيادة تلك الدول، والسعي لإقامة تعاون مستمر بين الأنظمة الاقتصادية للدول النامية والصناعية الكبرى، بهدف بحث القضايا الأساسية ذات الصلة بالاقتصاد العالمي، وتعزيز الاستقرار المالي الدولي، وارتبط هذا الاجتماع بأهداف رئاسة المملكة للمجموعة، ألا وهي تمكين الإنسان وتعزيز الدور الإيجابي له، والحفاظ على كوكب الأرض، وتشكيل آفاق جديدة، وقد أشاد مكتب الفضاء الخارجي بالأمم المتحدة بنجاح الاجتماع، ومساهمته في تعريف العالم بأهمية اقتصاد الفضاء، وأصدر بياناً يؤكد فيه أهمية اقتصاد الفضاء، وتزايد مشاركة القطاع الخاص فيه، ومساهمته بنجاح في الجهود الدولية لمواجهة وباء كوفيد 19، وإنعاش الاقتصاد العالمي، والحفاظ على تواصل الأمم.

وحسب ما ورد في وسائل الاعلام في الفترة القريبة الماضية، فقد استكملت الهيئة السعودية للفضاء، متطلبات تأسيس اقتصاد للفضاء في المملكة، ورفعت للمقام السامي استراتيجية وطنية للفضاء، ونظام الفضاء وتأسيس شركة وطنية للفضاء، وبالتأكيد ستسهم هذه الأعمال في تمكين المملكة وتقدمها في اقتصاد الفضاء، وما صرح به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في حديثه الصحفي الأخير، من أن مجلس الوزراء بصدد إقرار الاستراتيجية الوطنية للفضاء، وتكليف الهيئة السعودية للفضاء بتنفيذها، لهو خير دليل على إيمان القيادة الرشيدة باقتصاد الفضاء وأهميته الاستراتيجية، وسعي المملكة المستمر إلى توفير الفرص الكافية لاكتشاف الفضاء، والاستفادة منه في بناء مستقبل يقود المملكة وأبناء الوطن إلى عنان السماء.