مطلع 2020 انصبّت التوقعات في كل الدوائر الجدّية، بعضٌ منها غير معادٍ لبشار الأسد، على أن نهاية مساره باتت قريبة، بل وشيكة، استناداً إلى خيارات روسية، كما قيل. لكنه اجتاز عام الوباء،

وها هو مطلع 2021 يجنّد ما تبقى من «دولته» في مهمّة وحيدة: إعادة انتخابه رئيساً لسبع سنوات تُضاف إلى العشرين التي انقضت، وكان مرّر العشرة الأولى منها بالكلام عن مشاريع إصلاح وهمية، وأمضى الثانية بالتقتيل والتدمير والتشريد والخطف والإخفاء والتصفيات المبرمجة تحت التعذيب، على ما شهدت به الصور التي التقطها «قيصر» وهرّبها.

لذلك يستدعي إصراره على استنخاب نفسه بداهة الأسئلة: لماذا البقاء في الحكم، ومن أجل ماذا، طالما أنه برهن على نحو مريع أنه استطاع صنع إحدى أفظع المآسي الإنسانية، ورفض أن يتعلّم شيئاً آخر غير أنه على حق وصواب في كل جرائمه... لم يعد أحد ليصدّق أن سلاماً أهلياً يمكن أن يستقيم بوجوده، أو أن مَن هبط بسورية إلى قاع القاع هو مَن سينهض بها. لم يحدث في التاريخ أن من هدموا البلاد هم الذين أعادوا إعمارها، وأن مَن مزّقوا نسيجها الوطني والاجتماعي هم المؤهلون لإعادة الوئام واللحمة بين أهلها. لكن كل ذلك لا يهمّ الأسد، فهو والحلقة الضيّقة المحيطة به لا يهجسون إلا بأمر واحد: «هذه الدولة لنا وستبقى لنا» أياً تكن الظروف. وبهذه العقلية يُقبلون بحماس على التمديد للأسد، لإدامة سلطته وسلطتهم، مصلحته ومصالحهم.

بدأ الأسد منتصف نوفمبر الماضي ترتيب الفريق المكلف بتنظيم حملته الانتخابية والخطوات «التجميلية» الضرورية للمرشح المعلن فوزه منذ الآن، باعتبار أن البيئة الموالية له تعاني اليوم الظروف المعيشية الأكثر سوءاً. لكن الأسد كان ينتظر موافقة موسكو، إذ أقلقه في سبتمبر الماضي أن الوفد الروسي الذي زاره، وفي عداده سيرجي لافروف، لم يتحمس لحديثه عن الانتخابات بل طلب منه التريث، لذا حرص وزير الخارجية الراحل وليد المعلم، خلال مؤتمر صحفي متشنج مع الوفد، على تأكيد أن الانتخابات ستُجرى «في موعدها» و«بمعزلٍ» عن مسار اللجنة الدستورية (في جنيف).

لم تكن موسكو معارضة لإعادة ترشيح الأسد، بل كانت أولويتها لشروط ينبغي أن يلبيها، وأهمها مشروعها الاقتصادي المتضمّن تسعة عشر اتفاقاً نوقشت عام 2019 في سوتشي وتتعلق باستثمارات روسية في قطاعات الكهرباء والنفط والغاز والصناعة والقطاع الإنشائي.

مطلع أكتوبر الماضي وقّع معظم الاتفاقات في موسكو، وفيها جدولة ديون مقرّرة بنحو 3 مليارات دولار ونقل ملكية مشاريع وعقارات استملكها للنظام سابقاً على الساحل السوري. بعد ذلك، فرضت موسكو على النظام استضافة مؤتمر «عودة اللاجئين»، لا لإلزامه بإجراءات «تسهيل العودة الطوعية والآمنة»، بل لإبلاغ الجهات الإقليمية والدولية أن «ورقة اللاجئين» أصبحت عندها، مع علمها بأن الأزمة المستمرّة بوجود النظام نفسه وممارساته هي العقبة الرئيسية أمام عودتهم. بعد نقاش طويل، خلال زيارة وزير الخارجية الجديد فيصل مقداد، وافقت موسكو على ترشيح الأسد، وعلى انتخابات رئاسية تُجرى أواخر مايو أوائل يونيو، لكنها وضعت شروطاً منها تمكين آخرين (ترشحهم موسكو) من مشاركة شكلية في «المنافسة»، وأن يتخذ الأسد أو حكومته إجراءات منها إسقاط اثنين شرطَي الترشيح (الإقامة داخل سوريا في الأعوام الـ10 الماضية، وموافقة 35 عضواً في «مجلس الشعب»)، مع هندسة النتائج ليفوز الأسد بنحو 65 في المئة، ما يتيح لموسكو إعادة ترويجه كـ«رئيس شرعي».

من الشروط أيضاً إصدار «قرارات عفو» وإطلاق معتقلين- الملف الذي لم يستطع الروس إحراز تقدمٍ فيه لاكتشافهم أن معظم المعتقلين لم يعودوا موجودين. هنا ابتكر النظام حلّاً، بمضاعفته أخيراً حملات الاعتقال بمعدّل مئات يومياً ليفرج عنهم تعزيزاً للحملة الانتخابية. وفي الإطار نفسه تقول مصادر قريبة من الحلقة الضيّقة للنظام، إن عمليات مكثّفة أجريت لتخزين الدولار والوقود، بهدف إعادة ضخّها وإحداث انفراج معيشي نسبي بالتزامن مع الإعلان عن موعد الانتخابات خلال فبراير المقبل. يراهن الأسد للبقاء في السلطة، ولعله محقّ، على أن القوى الخارجية لم تردْ يوماً رحيله، وأهمها تلك الاحتلالات العديدة التي اجتذبها طوعاً أو قسراً لتتوزّع الجغرافية السورية، فبعضٌ منها يتغطّى بـ«شرعيته» (روسيا وإيران) وشاركته في تدمير كبرى المدن وتشريد نصف الشعب السوري، وبعضٌ آخر استمدّ «شرعية» من الباطن الروسي (تركيا وإسرائيل)، أو من محاربة الإرهاب كما سوّغتها «الشرعية الدولية/‏‏ الأمريكية». زحمة «شرعيات» تعترف ببعضها بعضاً وتتصارع علناً وضمناً، وتبقي نافذةً لـ«شرعية» الأسد معتقدةً بأن «توقيعه» ضروري على «الإصلاحات» الدستورية، بالأحرى متوهّمة بأنه سيوقّع على خفض صلاحياته وضبط نزعة نظامه للبطش والتوحّش، أو حتى على «الاعتراف» بوجود شعب سوري له حقوق مشروعة وليس مجرّد مستَتبعين لطائفة واحدة.

الانتخابات الرئاسية المقبلة هي الأولى منذ صدور القرار 2254 عام 2015، الذي لو طُبّق في المهل الزمنية المحددة لكان غيّر منذ 2018 كل السيناريوهات الأسدية. لكن النظام استطاع تمييع التنفيذ بتخطيط متواطئ من الإيرانيين، واستطاع إفراغ القرار من مضمونه بتكتيك متواطئ مع الروس، وأدخل مهمّتَي المبعوثَين الأممين ستافان ديميستورا وغير بيدرسون في المتاهة، إلى أن اختُزل 2254 بـ«اللجنة الدستورية» التي تحكّم الروس بتشكيلها ويتجاهلونها يومياً في مضيّهم إلى «حل سياسي» أرادوه دائماً... في كنف «نظام الأسد».

بقاء الأسد يعني شيئاً واحداً: سورية والسوريون ممنوعون من الأمل. بلد مدمّر ومفلس ولا يملك رئيسه مبرّراً للاستمرار سوى أنه أعدم بدائله منذ زمن، ومكّنه «بعبع» البديل الإسلامي من إسكات الداعين إلى رحيله. ما يساعده اليوم أكثر أن أمريكا تستخدمه وسيلة لإغراق روسيا في سورية، أما روسيا فتستخدمه لمنافسة أمريكا بدفعه نحو صلح مع إسرائيل. التطبيع بالنسبة إلى الأسد استحقاق ممكن، لكن... بعد الانتخابات.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»