المُمارس الصحي، وهو من يقوم بتزويد الرعاية الصحية لمن يحتاجها بصورها كافة، وأشكالها الجراحية والطبية والنفسية والتأهيلية والتعزيزية والوقائية. ليس بمعزل عن المُعاناة فهو بداية «إنسان» لم يولد بتحصينات من نوع خاص ضد الأمراض، وما قبل دخوله عالم تزويد الرعاية الصحية، فهو فرد كغيره من الناس له ماض وخبرات خاصة وسمات وخصائص شخصية وتربوية وجينات الخ. ما يُميزه «افتراضا» هو دور المعرفة والمهارة الصحية اللتين اكتسبهما في رحلته الأكاديمية والتدريبية والمُمارسة، للتفريق ما بين ما هو صحي ليعمل به وما هو مرضي يُفضي إلى مُعاناة فيتجنبه، ولا مجال للعبارة الشائعة المُتداولة بين الناس «باب النجار مخلوع»، وفوق هذا كله يتعرض المُمارس للعديد من المواقف الصعبة والظروف الاستثنائية والبيئات الضاغطة، وصناعة القرار والتعامل مع فئات مُختلفة الأجناس والملل والنحل، تجمعهم المُعاناة وتفرقهم العافية، وكل يعتقد أنه الوحيد في مرمى المُمارس ولهم الحق في ذلك، ويعيش الأزمات والطوارئ والكوارث، وهو يعمل بعلم ومعرفة ومهارة وسلوك مهني وأخلاقيات وإنسانية وصبر واحتساب. الجميع أستحث تساؤلا مُؤداه؛ من يقوم على رعايته صحيا عند حاجته لها؟. تتأرجح الأنظمة الصحية في الاستجابة لهذا الطلب المُلح ما بين نظام صحي مُتقدم يضع صحة المُمارس «أولوية» بفرض رعاية صحية تخصصية لهذه الفئة، مُلحقة بكل مراكز الرعاية الصحية الأولوية والثانوية والمُتقدمة من خلال عيادات مُستقلة، ليشمل الأمر تزويد تلك المراكز بعيادات العافية والتعافي، للحفاظ على صحة المُمارس معافى، ونظام صحي مُتأخر قد لا يعي ولا يُولي أهمية لهذا الأمر، ويترك المُمارس يحترق عضويا ونفسيا دونما مُبالاة، ونظام مُتأرجح بين بين.

عندما أتت جائحة كورونا وألقت بظلها الثقيل على العالم، انبرى المُمارسون الصحيون ليبلوا بلاء حسنا، كل في تخصصه، ما بين خطوط أمامية وأخرى مُساندة وثالثة لوجستية، والجميع في الميدان يُصارعون الليل والنهار هذا الغازي الفتاك، وعيون مرضاهم مُتجهة لله الشافي والمُعافي، ثم إلى هذا المُمارس في مد يد العافية وإقامة جسور التشافي وصناعة التعافي للعودة لعالم الشفاء والعافية. مهمة ليست سهلة ولا يسيرة، وهذا المُمارس يتعرض لالتقاط هذا الفيروس المُميت، أو ينقله لأحد من أحبابه ويعمل في «جو مُغبر»، إذا أخرج يده لم يرها من أصناف الضغط النفسي، وضغط الزمان والمكان وهول الكارثة وقلة الحيلة، رغم ما يبذله وما هو مأمول منه ورؤية مرضاه ما بين ميت ومُعانٍ ومُتألم وخائف يترقب الموت من كل مكان، وساعات العمل والإجهاد وقلة النوم والترقب والحذر، فلغم الفيروس الغازي في كل مكان، لا يراه وإنما يجد ويُشاهد ويُعايش ويلمس أثره وتأثيره، ومع هذا يعمل المُمارس بكل كفاءة ومهنية ليله ونهاره كجندي على ثغر من الثغور، لو نامت عينه أكله العدو ومن خلفه، أليس المُمارس بشر، له وعليه مثل ما للآخر ما عليه؟ جائحة كورونا لا شك مُستثناة، لكن هذه حياة المُمارس في زمن كورونا وغير كورونا، فحياته المهنية كلها مُستثناة، فهو الساعي الليل والنهار حتى يضع رأسه في وسادة قبره، قد يُقال بالعامية «هذا شغله وما أحد ضرب يده ليُصبح مُمارسا»، هنا شنشنة من أخزم لا يُلتفت لها.

يتعرض المُمارس الصحي للعديد من صور المُعاناة عامة، وعلى وجه الخصوص صحته النفسية. فوفقا للدراسات والبحوث والمُسوحات الصحية، فإن المُمارس يُعاني أزمات نفسية تأتي من مصدرين، أولهما كونه فردا فهو ليس بمعزل - كما أسلفت- عن الأزمات النفسية، وبالتالي تأتي البيئة الصحية الضاغطة التي يعمل بها «استثناء»، فتزيد معاناته، أو تصنع له البيئة الصحية ذاتها مُعاناة نفسية غير مسبوقة يلعب فيها الضغط النفسي «Stress» الدور الفعال، ليصل المُمارس لما يُعرف بالاحتراق النفسي «Burnout» والذي يدمر صحته العضوية والنفسية والمُفضي لسوء جودة حياة.

المخرج هنا، إيجاد رعاية صحية تخصصية تُعني بالمُمارس الصحي جسديا ونفسيا واجتماعيا، وتنمي وتعزز صحته الجسدية والنفسية والاجتماعية ليبقى معافى، تُلحق بكل المراكز الصحية والمُستشفيات والقطاعات الصحية كافة، ليقوم بدوره المهني والإنساني بكل كفاءة واقتدار. من ناحية أخرى توعية العامة بدور المُمارس الصحي وأهميته وما له وما عليه، وإصدار الأنظمة والتشريعات لمن يتجاوز عليه. سعدت الحقيقة بقرار وزارة الصحة بتشريع جديد يُعاقب من يتجاوز على المُمارس بالسجن 10 سنوات وغرامة مالية تصل إلى مليون ريال.

أنشأت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية - مشكورة- مُؤخرا خدمة «داعم» للمُتدربين في المجال الصحي، ومن ثم شمل البرنامج المُمارسين الصحيين كافة، أثناء أزمة كورونا لتقديم الدعم النفسي والرعاية النفسية لهم. المأمول التوسع في هذا البرنامج الواعد «داعم» من حيث الشكل والمحتوى، بجودة برامج نفسية وإرشادية، وتأهيله وتزويده بمُختصين وبكفاءات علمية ومهنية عالية، وتحويل هذا المسار إلى مُبادرة وطنية يتبناها المجلس الصحي السعودي، بصنع سياسات وإجراءات وأدلة إرشادية وتشغيلية للرعاية الصحية للمُمارسين، لتُصبح مركزا وطنيا بجسد هذا الكيان العظيم «المجلس الصحي السعودي». لقد أُتيحت لي فرصة المُساهمة في برنامج «داعم» ككيان استشاري وتقديم الاستشارات النفسية للمُمارسين الصحيين، ونشر أبحاث علمية حول الضغط النفسي وأثره في المُمارسين. من هذا المنطلق وقفت على الحاجة وأدركت أهمية الأمر - رعاية المُمارس الصحي-، حفظ الله الجميع.