يمسك الكاتب القلم، ليسطر مشاعر أو يعرض أفكارا، أو يروي قصة أو يعرض موقفا، وما إن ينشر عمله حتى تصبح الكلمات ملكا للقارئ، كيف يترجمها؟ لا يعود فقط على مستوى الثقافة الذي يمتلكه، بل أيضا على خلفيته الفكرية والاجتماعية والنفسية، والأخيرة تؤثر كثيرا خاصة إذا كان المتلقي في حالة نفسية سيئة أو معقدة! للتوضيح أقول لنأخذ مقولة ميشيل دي مونتين: «بالنسبة للملحد، تميل جميع الكتابات إلى الإلحاد: إنه يفسر أكثر الأمور براءة بسمومه»! تلك السموم التي تحول أجمل الكتابات إلى قبح في عقل المتلقي، فيتبنى معانيه التي استنبطها، وعليها يحكم على النص وعلى صاحب النص!

من سمات النص المكتوب أنه قابل لعدة تفسيرات، فيمكن للعديد من الأشخاص قراءة نفس النص، على مدار فترات زمنية طويلة وبعدة طرق مختلفة، فقد يكون الكاتب من زمن مضى كانت فيه الظروف مختلفة، والخلفيات الثقافية والفكرية مختلفة، وقد يكون في الحاضر وأيضا في خلفيات ثقافية وفكرية مختلفة، داخل المجتمع الواحد. المهم هنا أن ما يبحث عنه القارئ عادة هو ما يدعم فكره أو آراءه، فيقوم بتفكيك النص وتحليله، بحيث يعيد إخراجه داخل عقله، بما يعزز اهتماماته وتوجهاته، وبما أن البشر يختلفون في خلفياتهم ونوعية أفكارهم وتوجهاتهم، فإنّ ما يحدث هو أن التفسيرات تتعدد ما بين تمايز واختلاف، لا توجد مشكلة إن تم ذلك بكل موضوعية واحترام، فالاختلاف وارد، بل هو صحي وطبيعي، ولكن المحاكمة بناء على سوء الفهم هنا، تنشئ التصدع في التواصل وتشوّه الرسالة.

والمزعج حقا بالنسبة إلى الكاتب، حين يتم تمرير عباراته من خلال نظارات إدراك متصدعة، ممن يأخذون ما هو مكتوب ويحولونه حسب نفسياتهم وخلفياتهم، إلى عبارات بمعانٍ غير التي تحملها، ومن ثم القيام بمحاكمة الكاتب بناء على ذلك! وعندها يتحول الجمال إلى قبح، والواضح إلى غامض، والمنير إلى مضلّل.

التواصل البشري من ضرورات الحياة، وهو طريق ذو اتجاهين: شخص يكتب أو يتحدث، وآخر يقرأ أو يصغي، وقد يبدو التواصل على أنه مهارات من السهل التدرب عليها والتمكن منها، إلا أنه في الواقع يمكن أن يصبح معقدًا في لحظة، وذلك بسبب دخول سوء الفهم والتفسيرات الخاطئة على الخط، وتبدأ الخلافات والصراعات، بالاستحواذ على الموقف والمشهد.

فلماذا يحدث ذلك؟! لأن البشر يرون الأشياء كلّ بشكل مختلف، ما يوجه بوصلة الاهتمام والانتقاء من النص، تحدده خلفية المتلقي الذي يبحث عما يريده من النص، هل هو يبحث عما يعتبره مهمّا؟ هل يبحث عما هو مألوف لديه؟ هل يقيس النص بناء على مرئيات وأفكار شريحة معينة من المجتمع، «أي كيف سيتلقون النص؟ كيف سيفسرونه؟ كيف سيكون حكمهم؟ وبماذا سيصفون الكاتب؟» هل يبحث القارئ عن أخطاء وخروج عن العرف والتقاليد؟ هل يؤمن بأن ما لدى الكاتب يستحق القراءة؟ والإجابة تأخذنا دائما إلى نفسية المتلقي، هل هي صافية ومستعدة لتناول النص بموضوعية؟ أم مشوشة وتبحث عن خلل، أي خلل يجعلها تشعر إما بالقلق والاستفزاز، وإما بالنشوة والاعتزاز، لتوصلها إلى ما قد يدين الكاتب!

القراءة والتفكير عادة ما يكونان مرتبطين، أقول عادة لأنه يوجد من يقرأ دون أن يفكر، بمعنى أنه لا يستخدم أدوات التفكير الناقد، وما يستخدمه هو أدوات تفكير غيره! لنفكر قليلا ونُجِيب عن هذا السؤال: نحن كقراء، عندما نقرأ ماذا نسمع من داخلنا؟ إن كانت عباراتنا تردد صوت أفكارنا، فهذا يعني أننا نصغي إليها، بعيدا عن قراءة عبارات الكاتب! وبهذا نكون قد سمحنا لأفكارنا بالتشتت، والخروج عن النص الذي نقرؤه، حتى ولو كان ذلك للحظة، لأننا بذلك نكون قد قمنا بمعالجة النص، أو إرجاعه إلى خلفياتنا ومحاولة تركيب المعاني داخل أشكال مختلفة من المساحات، أي نحاول إدخال مربع داخل دائرة أو مستطيل داخل مكعب! وهذا لا يضعف قدراتنا على فهم النص، أو حتى الاحتفاظ به في الذاكرة فقط، بل يجعل من العملية بمجملها فارغة وغير ذات قيمة.

قلم الكاتب ليس ملكًا لكل جلاد، يريد أن يقتص منه لمجرد أنه توصل إلى حكم، قام بنسجه من خلال معايير تخصه، لا علاقة لها بالمنطق أو الموضوعية، أو حتى الإبداع والجمال! ولو أننا قرأنا سير الكتّاب الناجحين، لوجدنا في كثير منها أنهم لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذه النوعية من القراء، بل يكملون مسيرتهم ولسان حالهم يقول: «إذا أرادوا انتقادك على من يعتقدون أنه أنت، فدعهم يرتكبون هذا الخطأ، فأنت لست مسؤولا عن أفكارهم».

ولمن يجد نفسه أنه توصل إلى فهم يزعجه أو يضايقه، فلينظر إلى الأمر من جهة أخرى، حقا الأمر ليس بهذا التعقيد، لأنه لا يوجد أي ضغط إلا ما نخلقه في خيالنا، ولهذا لا حاجة لك أن تمر بمثل هكذا ضغوط، إن الأمر برمته بين يديك.. اعتبر الأمر أنه مجرد سوء تفسير العبارات، أعد القراءة بموضوعية.. غيّر عدسات نظاراتك لتتغير نظرتك.. وإن كانت لديك فرصة لطلب التوضيح فتقدّم واسأل.. وعندئذ سيختفي القلق ويزول التوتر!