كل تلك السنوات لم أستطع الكتابة عن الأديب أحمد الحربي، ومن يستطيع الكتابة عن والده، الذي هو أبلغ من الكلمات والقصائد، لم تتجرأ مُخيلتي للحظة الخوض في تجربة الكتابة عن ذلك الكم الهائل من المشاعر الإنسانية، والحب والخير والبشاشة، والشجاعة والقوة والصبر، وكل الفضائل النبيلة والمبادئ التي يقوم عليها الإنسان الحقيقي.

مات هذا الشجاع وترجل عن الحياة، بعد أن كان يصارع السرطان لسنوات طويلة بالابتسامة والسفر والحضور، بلا عذر أو تردد. فقدت الثقافة العربية جزءًا من ذاكرتها، فقدت الأندية الأدبية حضور الشاعر الموهوب، فقد الحسن آل خيرات نفسه، فقد الأصدقاء العكاز الذي يتكئون عليه، فقدت الأحلام الواقعية، فقدنا جميعا الرؤية والنور.

اللحظة التي يموت فيها من نحب تنتهي غصة الميت الأخير لنا، وتبدأ غصة الميت الجديد، منذُ الساعات ونحن نبتلع ذكرياتنا مع هذا الرجل العظيم إلى داخلنا، منذُ الصباح ونحن نشعر باليُتم، والاختلال، والزاوية الضيقة في الروح والفؤاد، منذ اليوم ونحن بلا قامة حقيقية تقف على مسرح النادي الأدبي، كيف للغة أن تتم، وللمعنى أن يصل، وللقصيدة أن تدهش وليس هناك أحمد الحربي.

أشعر بالضياع الذي يلف الروح إلى المنطقة الجافة بالألم والحزن، أين نمضي بعدك يا أستاذنا، إلى الشعر الذي كتبته لنصافحك، أم إلى المواقف النبيلة التي خلدتك في ذاكرتنا إلى الأبد؟!.

لا أعرف أي لغة أكتب بها، ولكني لست هنا لأكتب، ولكني هنا لأبكي بطريقتي التي أحب، أنا هنا لأقبلك إذا لم أستطع في الغد تقبيلك، وأنت موشح بالمسك والعود والقصائد ومواويل الرعاة، و إذا غرتني الحياة عن الأصدقاء والرجال والمحبين، وإذا بكيت وحدي، وحزنت وحدي، وانتحبت وحدي، كما أفعل منذُ طفولتي الأولى.

" مات اليتيمُ وخلّفَ امرأةً وأيتاماً وراءَهْ

يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ

يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ : كوني رداءَهْ

ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً ، والحلقَ قطرةْ

ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ ، وبالأعشابِ صدرَهْ

هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ عاماً فعاما

متقيِّحَ الطعناتِ

مشلولاً

مُضاما ...

يا رحمةَ الله التي وسِعَتْ شقاءهْ

قودي خُطاه إلى السماءِ ، فطالَ ما حجبوا سماءَهْ

وتَرَفّقي ...

إن الجراحَ تسيلُ من قدَمَيه ، تنبتُ وردةً في إثْرِ وردةْ

فلترفعيه إلى جذور النخلِ حيث ينامُ وحدَهْ

ولتضفري من سعْفِ نخلتِه مخدّةْ

حتى إذا ما أغمِضَتْ عيناه وانسرحتْ يداهُ

وتهدّلَ الأبنوسُ فوقَ جبينِه ... كوني رؤاهُ

*

أيّوبُ في المستشفياتِ يهيمُ ، تسبقُهُ عصاهُ

بين القرى المتهيّباتِ خُطاه

وبيوتُها تنشَقُّ عن لبَنٍ إذا مرّتْ يداهُ عبْرَ الجبينِ

وأورقتْ في السرِّ أغنيةٌ وآهُ ... "