كل مرة يظهر فيها سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان آل سعود، ليلقي كلمة في مناسبة ما أو من أجل حدث أو مشروع جديد، كل الأنظار والعقول والقلوب معه تنصت وتأمل وتستبشر. هذا اليقين ليس حديثا عابرا لأجل وصف واقع حاصل، بل حقيقة يدركها من يصغي لما وراء الكلمات التي يقولها سموه كل مرة، فيوقن أنه أمام شخصية فذة، وإدراك واع لواقع الحال، وطموح متجاوز متطلبات المستقبل.

كانت كلمة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة، عند إعلان إطلاق إستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة للسنوات الخمس القادمة، على تلك الشاكلة التي تنطوي على معان قيمة، وأسس قوية للتغيير والتقدم والازدهار. لن أتطرق اليوم للجانب الاقتصادي والاستثماري الواعد والمبشر في كلمته عن الخطة الإستراتيجية القادمة، فله المختصون من الزملاء الاقتصاديين، ولكن سأستعرض معكم الختام المشرق الذي انتهت به الكلمة، وما تنطوي عليه من قيم ومفاهيم مهمة، ينبغي علينا كمشاركين في بناء هذا الوطن أن ندركها ونعمل ونبشر بها.

«.. نستثمر في المستقبل. غايتنا أن يكون وطننا رائدا للحضارة الإنسانية الجديدة، وبهذا ستكون نهضة المملكة ارتقاء للعالم». في رؤيته الطموح، من خلال هذه العبارة، فإن ارتقاء العالم سيكون منطلقا من نهضة السعودية ونمائها، وهذا لن يتحقق إلا بريادة وطننا الحضارة الإنسانية، التي وصفها سموه «الجديدة»، مؤكدا أن كل ما يعمل به ويخطط له ويرسمه هو ليس استثمارا في الوطن ومواطنيه ومقوماته الداخلية فحسب، بل استثمار في المستقبل، بما يحمله معه من تحديات وطموحات وتوقعات مختلفة. إذن محور التقدم والريادة للمستقبل يقوم على بناء حضارة إنسانية شاملة. والحضارة الإنسانية تعد، إلى حد ما، مصطلحا جديدا في لغة العصر، لأن كل الأمم التي كانت تتباهى بحضاراتها الخاصة والفردية وتراهن عليها، بدءا من الحضارات القديمة البائدة مثل الحضارة الرومانية أو الحضارات التي ما زالت تقاوم رياح التغيير وحتميات العولمة وقوة التطور البشري والمادي، لم تستطع الصمود وتلاشت أو في طورها الآن للتلاشي والنسيان بعد ما أثبت الزمن أنه ليس ثابتا أمام طوفان التغيير.

جميع الحضارات التي انهارت في مرحلة ما من وجودها انهارت بسبب عدة عوامل، اجتمعت على ما كان يعتقد أنه قوة لها مثل الفردانية المطلقة والانعزال الثقافي والإنساني عن الحضارات المجاورة، وما لحق بها مع الوقت من عوامل اقتصادية متراجعة أو أمنية مضطربة داخليا، أو مشكلات اجتماعية يتلاشى معها الولاء وفقدان الهوية وانعدام جودة الحياة، بالإضافة لما قد يحدث من عوامل طبيعية كارثية أو مادية أخرى خارجة عن إرادة تلك الحضارات، ولا تستطيع التعامل معها ومقاومتها، فالانغلاق الاجتماعي والاقتصادي مع تدني وضوح الرؤية والتخطيط، وعدم القدرة على التعامل مع المتغيرات الاقتصادية والعالمية المحيطة بأي حضارة هي المسمار الأخير في نعشها.

حينما يراهن الأمير الشاب محمد بن سلمان على إنسانية المستقبل أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة وحدث عالمي وداخلي خلال الأشهر الماضية مثل قمة العشرين ومشروع ذا لاين وإستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة، فهو بلا شك يدرك أن التماهي مع التغييرات التي تحدث في عالم مضطرب ومتسارع، والقدرة على التكيف مع التطورات المفاجئة مع الحفاظ على الثبات والتوزان المنطلق من وضوح الرؤى والتخطيط السليم هي من أهم العوامل التي نستطيع أن ننطلق بها نحو المستقبل بثقة وثبات، نحمل معنا الإرث العظيم لهذا الوطن، متجاوزين التحديات، لنكون رواد العالم في أغلب مجالاته المتقدمة والمستحدثة باقتدار ومنهجية وسلاسة عمل وعطاء.

حينما تكون الإنسانية هي المعيار الذي تبنى عليه الأمم، وتنطلق منها رؤيتها ومتغيراتها المؤسساتية والعملية، فهذا يعني أنها تراعي عدة عوامل مهمة في صناعة المستقبل وتدرك أهميتها، منها على سبيل الذكر لا الحصر النقاط التالية التي تتفق مع الأسس التي تقوم عليها «رؤية 2030»، وتقوم عليها خطط التحولات الوطنية والمشاريع التنموية والإنسانية التي تعيشها السعودية في السنوات الست الأخيرة:

الانفتاح الحضاري والثقافي، والتفاعل مع متغيرات العالم بالحضور الفاعل والداعم والمشاركة، والتخلي عن سياسات الانغلاق الداخلي والانكفاء على الذات ورفض التعددية الفكرية والبشرية.

تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاقتصاد، بما يخدم هذا الجانب بالاستفادة من الموارد المتعددة التي توجد في الدولة.

الاستثمار في رأس المال البشري، واستهدافه بالتعليم الموائم للوقت الراهن، والمهارات الضرورية التي تتماشى مع متطلبات القرن العشرين.

إصلاح وتعديل وتنظيم الأنظمة الاجتماعية الداخلية، وتعزيز سيادة العدل والأمن والحقوق بين المواطنين دون تفرقة جندرية أو مذهبية أو جهوية.

التعامل مع التغييرات المناخية والبيئية وحمايتها، وتعزيز أهمية الحفاظ على البيئة ومقدراتها، والمشاركة العالمية في الأمن المناخي والبيئي، لضمان استدامة مقومات الحياة الطبيعية.

القدرة على التعامل مع الأزمات الطارئة والكوارث الطبيعية، وهو ما ظهر جليا في التعامل مع «جائحة كورونا»، وما أتخذ من إجراءات احترازية صارمة ودقيقة ومستمرة حتى اللحظة، وضع المملكة في مقدمة المؤشرات العالمية في التعامل مع الأزمة واحتوائها، وتقديم العلاج والرعاية لكل من يقيم عليها دون استثناء.

قبل أكثر من عشر سنوات، قدم الكاتب والباحث الأمريكي آيان بريمر، المختص في السياسة الأمريكية الخارجية، مصطلحا جديدا في المفاهيم الجيوسياسية والاقتصادية العالمية وهو «المنحنى جي» (J Curve)، الذى فسره بإسهاب في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، بأن الطريق الأسلم للاستقرار العالمي لن يتحقق إلا بواسطة أسس من سياسات التوازن التجاري، وانفتاح الشعوب على العالم. وها نحن نستمع لكلمة ولي العهد في أحد أهم الأحداث الاقتصادية والتنموية، التى يشير فيها إلى الحضارة الإنسانية، بما ينم عن وعي تام بمتطلبات الاستقرار والتنمية. «بريمر» هو أيضا من تحدث في أحد لقاءاته الصحفية الأخيرة عن تداعيات «كوفيد- 19»، وأكد أن العالم يعيش فعليا الآن ما أسماه «G Zero World»، أي عالم دون قيادة، بسبب ما واجهه هذا العالم من تفكك وانهيار أخلاقي وإنساني وتدهور اقتصادي وصحي. وأجزم أنه لم يدرك بعد طموح قيادتنا الشابة الذي يعانق عنان السماء بألا نكون فقط روادا إنسانيين للعالم وحسب، بل قادة له عن اقتدار وجدارة، لفهم متطلبات العصر والتعامل معها بذكاء، التي يؤكدها كل مرة سمو ولي العهد، وعلى جيل هذا العصر أن يستوعبها ويعمل لها.

إن أقوى الأشخاص في العالم هم من يدركون قدرتهم على التأثير في المستقبل، وحتى نكون جزءا من المستقبل الواعد فينبغي أن نستشرفه باستمرار، ونعمل لأجله بوضوح دون الانسلاخ عن المعايير الإنسانية العالمية المتحضرة أو التخلي عن الهويات والمقومات الداخلية الراسخة، وأن نعمل مع هذا العالم كشريك فاعل ومؤثر وليس منافسا فقط.