كشفت جائحة فيروس كورونا عيوب الحضارة الغربية المعاصرة بكل تداعياتها المادية، بعد أن بان تدني فاعلية النظام الصحي في مؤسساتها العلمية، والطبية بشكل صارخ، وإخفاقه في التصدي للجائحة على النحو المرجو، فالتداعيات السلبية التي يعيشها عالم اليوم، وفي المقدمة منها العالم الصناعي المتطور، بما فيها الفساد السياسي، والإفلاس القيمي، والأخلاقي، والتلوث البيئي، بالإضافة إلى عجز بلدان تلك المنظومة عن إيجاد الحلول المناسبة للوقاية من فيروس كورونا، وغيره من الأوبئة المستعصية، كلها تصب في خانة الإساءة إلى الإنسان، والفتك بصحته.

مع أن جائحة كورونا وبكل آثارها المأساوية من الفتك بالإنسان، وشل حركة الحياة، كانت كارثية حقًا، فإن النظم الصحية في الدول الرأسمالية، ومنها الولايات المتحدة بدت عاجزة، في معالجة الجائحة، فقد انهار نظامها الصحي تمامًا، فلا معدات وقائية طبية، ولا مستشفيات تكفي، وترك الفقراء، ليلاقوا مصيرهم المحتوم، ولا ريب أن ترك العائلات تستعد لفراق أحبتها، وما حصل من إهمال لكبار السن ليموتوا، ويواجهوا مصيرهم، وتحويل الأجهزة الانعاشية إلى الشباب المصابين، كان إفلاسًا مقرفًا للقيم الديمقراطية الغربية الزائفة، وامتدادًا لفكر اقتصادي بشع، قامت عليه الرأسمالية المتوحشة، التي ما انفكت تتمادى في سعيها المادي الجشع، لتعظيم الأرباح، ومضاعفة العائد على رأس المال، كأسبقية أولى في ترتيب أهدافها، عند ممارسة أي نشاط. أما في دول العالم الثالث فكان الوضع مأساويًا ومقرفًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وذلك بسبب ضعف الإمكانات المتاحة، المادية والعلمية معًا، عندما انهار الأمن الصحي بالكامل، وغاب اللقاح، وشح الدواء، واضطر الناس للحجر البيتي التلقائي، لمواجهة المصير المحتوم، أو بانتظار حصول معجزة الفرج الإلهي، بصرف الوباء والبلاء وغلاء الدواء عنهم.

لا ريب أن الانتشار السريع للفيروس، وغزوه العالم بهذا الشكل المفزع والمروع، والعجز التام عن الوقاية منه، أو معالجته بشكل مطمئن، قد هز عروش الديمقراطيات الغربية المهووسة بحقوق الإنسان، بعد أن مرغ تشدقها بالقيم والمثل الإنسانية بصديد تداعيات الكارثة المأساوية، وكشف مدى الانهيار الأخلاقي، والقيمي، لمعايير مدنيتها المادية الراهنة. هكذا يبدو أن الأوضاع بعد حقبة جائحة كورونا في العالم كله، قد لا تبقى كما هي عليه الآن.. وهذا يعني أن نظرية نهاية التاريخ بالتوقف عند تخوم الحضارة الغربية المعاصرة، كما تم الترويج لها، ستبقى مجرد أوهام في عقل، وثقافة واقع حضاري معاصر، يعيش تناقضات عميقة، تحمل في طياتها، أسباب انهيار هذه الفرضية، فالسيرورة الحضارية الإنسانية ما برحت مستمرة، وبالتالي فإن التاريخ لن يتوقف عند محطة بذاتها، لا سيما بعد جائحة كورونا، وهو ما قد يفضي إلى رؤية أخرى جديدة ومغايرة، ربما تخفف من غلواء، وسلبيات ثقافة سوق المنافسة، بعد تقييدها بمنعكسات إيجابية على الصحة العامة لشعوب العالم، المتقدم منه والنامي، على حد سواء.

لذلك قد تتهاوى نظرية «نهاية التاريخ»، وتتداعى فلسفة «صراع الحضارات»، التي زعمت أن التاريخ قد توقف عند النموذج الرأسمالي الأمريكي وحسب، وأن العقل البشري قد وصل سقف التطور بابتداع هذا النظام المتمركز، الذي هيمن على العالم، وفرض قيمه، وثقافته المادية عليه، في عولمة عصرنة صاخبة، مفتوحة في كل الإتجاهات بلا قيود، مما يبرر متطلبات البحث في تشكيل عالم جديد بديل، رغم كل ما قد يواجه هذا المنحى من صعوبات.

من هنا فإن الأمر يتوجب أن يأخذ العالم، المتقدم منه، والنامي، على حد سواء، العبرة، ويستوعبا الدرس من تداعيات هذه الجائحة، ومما هو قادم من مثلها، وان يتم الشروع بتبني استراتيجيات جديدة على مستوى دولي، توظف العلم، ومعطيات التطور، بشكل جاد في خدمة الإنسانية، والتركيز على حظر توظيفه للشر، والدمار الشامل، تحت أي ذريعة، وذلك بالعمل على تشكيل عالم جديد، يقوم على التعددية والتكامل، وليس الهيمنة والقطبية الأحادية، وصراع الأقطاب، وإشاعة ثقافة التعايش السلمي بين الشعوب، والتركيز على توظيف مستجدات التطور العلمي والتقني، بأبعادها العلمية، والطبية، والفلسفية والدينية والحضارية، بما يرسخ منعكساتها الإيجابية على الإنسانية، والعوالم الأخرى، والبيئة، بمنظور أخلاقي، يتجاوز حسابات دافع الربح المجرد، واسدال الستار على سباق التسلح بكل أشكاله، البيولوجية، والنووية، الساخنة منها، والباردة، وأن يتم التخلي عن فلسفة الحقيبة النووية، ليحل محلها اعتماد نهج الحقيبة الطبية، إذا جاز التعبير، بكل ما يعنيه، هذا النهج، من ضرورات التركيز على الأبعاد الإنسانية، والمعاشية، والصحية، والتعليمية، والاجتماعية، والبيئية، وتعميق ثقافة النهوض بهذه المعايير، في عالم ما بعد كورونا، الذي يبدو أنه قيد التشكل، عاجلاً أم آجلا.