يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في حديثه عن التجربة السلفية: «إن نجاح الموقف السلفي في تجديد فهم الدين بالرجوع إلى ينابيعه الأولى مثل نجاحه -أو بالأحرى نجاح مساهمته- في تجديد أساليب اللغة العربية بالرجوع بها إلى ما كانت عليه في عهد ازدهارها، شيء طبيعي تماما. فالتجديد في الدين لا يعني إضافة أشياء جديدة عليه ولا تطوير أو تحديث تعاليمه. فالدين بالتعريف، وحي إلهي لا يخضع للتطور والتجديد بهذا المعنى».

نفهم من كلام الجابري أن المنهج السلفي يعتمد في تجدده الدائم ومواكبته للعصر على عامل اللغة أي الرجوع إلى أساليبها الأولى في الفصاحة والبيان في سبيل بناء فهم جديد للدين، لا يغير في مصادر الدين الأساسية كالقرآن الكريم والسنة النبوية. لذا كان التجديد السلفي يتمثل في العودة للغة الوحي الأصلية مع استبعاد أي تأويلات بشرية للنص المقدس.

ويلعب مفهوم «البدعة» دورا محوريا للتجديد الديني في المنهج السلفي، فالبدعة واللغة يمثلان حجر الأساس في الفكر السلفي، ومن خلالهما يمكن الانطلاق نحو التجديد وتنقية العقيدة الدينية من التدخلات البشرية التي تفسدها غالبا. فمن خلال تحليل النصوص لغويا وضبط الأبعاد الدلالية لها والتعرف على ملابساتها التاريخية من أجل تحديد معاني الألفاظ، وبالتالي استنتاج السلوكيات الدينية التي يجب رفضها أو تثبيتها للوصول لمرحلة اليقين، فاللغة تشهد على نفسها وهي السبيل الأوضح لفهم الأحداث التاريخية.

ينطلق السلفيون عبر نظرية متقدمة للمعرفة، فتحديد البدعة من عدمها ليس أمرا اعتباطيا بل هو محكوم بمنهجية صارمة تنطلق من اللغة، لذا كانت الإحاطة باللسان العربي شرطا أساسيا ينطلق منه الفقيه ساعيا إلى إيجاد حلول للمسائل الفقهية المطروحة، فالمنهج السلفي لا يقوم على التقليد بقدر ما يقوم على التعامل النقدي مع النصوص من خلال نظرية معرفية محددة، لها جانب فلسفي عميق يعتمد على عامل الشك المنهجي لتحديد أي السلوكيات التي ينطبق عليها مفهوم البدعة، وكل سلوك ديني محدث لا تؤيده النصوص هو موضع شك ولا يمكن التسامح معه.

الشك في السلوكيات الدينية المحدثة انطلاقا من مفهوم «البدعة» يمثل طريقة المنهج السلفي في تجديد الخطاب الديني، وعند الحديث عن الشك يبرز لأذهاننا اسم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الشهير بمنهج الشك. فديكارت كان يؤمن بأهمية المنهج في الفلسفة، وقد أوضح في كتابه «مقال في المنهج» القواعد الأربع لمنهجه المتبع، القاعدة الأولى تقول «أن لا أقبل شيئا على أنه حق، ما لم أعرف بوضوح أنه كذلك» وهذه القاعدة هي الأساس في تحديد البدع الشرعية، فأي سلوك ديني لا يسلم بأنه حق ما لم يثبت ذلك. وإثبات ذلك يكون من خلال العودة للمصادر الأصلية للتشريع، لتحديد أصله التاريخي.

والقاعدة الديكارتية الأخرى تقول: «أن أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة، وأرتقي بالتدريج للموضوعات الأكثر تركيبا»، وتتوافق هذه القاعدة الديكارتية مع الفكر السلفي الذي يضع بعض المسلمات المبدئية البسيطة التي يؤسس من خلالها لدراسة المحدثات، فالفكر السلفي يؤمن دون شك باكتمال الدين، ويفهم أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وينطلق من خلال جدلية «الثابت والمتغير»، فهو يعتقد أن المعتقد الديني ثابت والمجتمع البشري متغير، فكيف يمكن حماية المعتقد الديني الثابت من حركة المجتمع المتغير؟ يقول الشاطبي في كتابه الاعتصام: «إن المحدثات تدخل في المشروعات، وإن ذلك قد كان قبل زماننا، وأنها تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن»، وحسب الشاطبي فإن عملية تطور المعتقد الديني تمر بمراحل عديدة يلعب فيها عامل الزمن وتتابع القرون دورا رئيسا، فالسلوك الديني المبتدع يتحول عبر الأزمنة إلى معتقد جديد يصعب تحديد أصله وماهيته ومدى مشروعيته. فكيف نميز بين السلوك الديني الشرعي وبين السلوك الديني المبتدع؟. هنا يأتي دور الدراسات المعرفية التي تحفر في أعماق اللغة والتاريخ من خلال الانطلاق من قاعدة بسيطة «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».