حل الإرهاب الديني مع الإرهاب التقليدي كأن المفكر لا يكفيه الإرهاب التقليدي، حتى جاءت محاكم التفتيش الدينية متعصبة تزحف لتقيم عليه قمعا من نوع جديد، بل أكثر خطورة فهذه الحركات الدينية حركات قمع لكل مبدع وخلاق، وأوضح تعبير لمحاكم التفتيش «حرب الكاسيت»، حسرة صدئة يكفرون بها أدباء الحداثة على اختلاف وتعدد مدارسهم.

لم يتوقف الحوار كلية بين الحداثيين وبين الأصوليين فبقي الأصوليون متربصين بالحداثيين لا يفوتون فرصة على أنفسهم كلما اشتموا منهم رائحة النهار الجديد، ففي نهاية عام 1990 وبداية عام 1991 اشتغلت من جديد حرب الكاسيتات أو الأشرطة مجموعة، وكان ثمرة هذه الحرب كتاب غازي القصيبي (لكي لا تكون فتنة 1991) الذي كان بمثابة الكتاب الحداثي الأبيض والذي طبع في البحرين ولم يبع في المكتبات، وإنما وزع من قبل القصيبي على الخاصة من القراء، وكاد أن يكون كتابا سريا ما دام أنه لم يعرض في المكتبات، علما بأنه كان ردا على مجموعة ما قيل في مجموعة من الكاسيتات التي سجلت في الدمام وسمعها القاصي والداني، وبيعت في معظم المكتبات الإسلامية السمعية، ولكنها سحبت بعد ذلك من الأسواق على ما يبدو بعد صدور كتاب القصيبي (لكي لا تكون فتنة).

وكتاب (حتى لا تكون فتنة – 148 صفحة) جاء امتدادا لحوار الحداثة والأصولية الذي ابتدأ عام 1985 وامتد حتى عام 1989 وانقطع بعد رد محمد العلي على كتاب القرني (الحداثة في ميزان الإسلام) فجاء كتاب (حتى لا تكون فتنة) وصلا لما انقطع من ذاك الحوار الطويل.

ومن الملاحظ أن هذا الاستئناف للحوار أخذ شكلا جديدا ومنحى مختلفا عن الحوار السابق، فقد كان هذا الحوار مرتكزا على المحاور التالية: بين الشاعر والكاتب والسفير السعودي في البحرين من جهة وبين ناصر المعمر الأستاذ في الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وبين القرني وسلمان العودة وسفر الحوالي وهم من غلاة الأصولية من جهة أخرى.

إن جدل الفكر السعودي يعيش تناقضا واضحا وبينا، ففي الوقت الذي يتبنى فيه هذا المجتمع في الاقتصاد التجارة والأعمال ما يسمى بالسوق الحرة Free Market وهو مفهوم اقتصادي غربي رأسمالي كما نعلم جميعا، فإنه في الوقت نفسه يتبنى سياسة الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة بالنسبة للأدب والفن والنقد، فهو في الاقتصاد والتجارة والأعمال سوق حرة منفتحة ومفتوحة، وهو في الثقافة باب مغلق يحول بين الريح وبين الإبداع وهو ما لا يقدر عليه فمن يستطيع أن يمنع الهواء من دخول رئة الناس؟!

الأصوليون يختلفون مع الحداثيين والمحايدين في تعريفهم للحداثة والأصولية والعلمانية ولكثير من المفاهيم السائدة، ففي الوقت الذي يركز فيه الحداثيون ومعهم المحايدون على أن حركة الحداثة هي الجديد وهي الإضافة وهي الحاضر الذي يربط الماضي بالمستقبل، يضيق الأصوليون عدسة تصويرهم للحداثة، ويركزون على إلصاق الكفر والإلحاد بهذه الحركة من خلال مقولات مقولة غربية وعربية متطرفة، وهو ما لا يؤخذ ولا يعتد به فالدين هو السلوك الفطري للإنسان.

لم يفرق الأصوليون بين الحداثة على الطريقة السعودية وبين الحداثة خارج السعودية سواء كانت في العالم العربي أو في الغرب، لذا تراهم يهاجمون الحداثة السعودية لكلام لم تقله وإنما ربما قيل خارج السعودية فكيف تزر وازرة وزر أخرى؟.

ولعل هذا الخلط بين مفاهيم الحداثة السعودية وبعض المفاهيم المتطرفة العربية والغربية هو الذي رمى الحداثيين السعوديين بسهام الأصوليين الجارحة وأشعل نار الخلاف بين الفريقين.

فالحداثيون السعوديون يتحدثون عن الحداثة من خلال الأرض العربية الإسلامية التي يقفون عليها، ومن خلال الطقس الاجتماعي والمناخ الفكري السائد، وهم لا يستطيعون إلا أن يفعلوا ذلك كما فعلوا مع كثير من المنتجات الصناعية والزراعية، ومع كثير من المعطيات السياسية والثقافية، ومن هنا نفضل أن نطلق على هذه الحداثة تسمية الحداثة على الطريقة السعودية لتميزها عن باقي حركات الحداثة في الإعلام العربي وفي العالم الغربي، وذلك من خلال ما قرأناها من مفهوم المثقفين السعوديين للحداثة سواء من كان منهم حداثيا أو حياديا.

لم يصدر عن الحداثيين السعوديين كلمة وحدة أو إشارة واحدة تمس الدين، وعلى الرغم من ذلك فقد ملأ الأصوليون ردودهم على الحداثيين بإشارات تمس الدين، وكان واضحاً أن التوريط والجر إلى معركة مفتعلة هو الهدف الأساسي من كل هذا.

إن الحداثيين متمسكون بالتراث تمسكا شديدا باعتبار أن التراث هو الملء. وأنهم لا يتحركون ولا ينطلقون من فراغ وإنما من ملء. ويوم أن يتنكروا للتراث فمعنى ذلك أنهم ينطلقون من فراغ وينتهون إلى فراغ. فهم محكومون لهذا التراث سواء رضوا بذلك أم لم يرضوا تلك هي الحتمية التاريخية، التي إن أنكرت فترة عادت وفرضت نفسها من جديد مثلها مثل مد البحر الذي يعقب الجزر دائما.

الصراع بين الثبات والتحول صراع قديم فلا نفزعن من ذلك. فالثواني متغيرة فما بالك بالأيام والسنين. وما دام الزمن يتقدم فمعنى ذلك أن التغير مستمر والصراع قائم بين الثانية السابقة والثانية الحالية والثانية التي تعقب ذلك. إنها الحياة بكل ديناميكيتها وصراعها نحو التقدم إلى الأمام دائماً.

إن أخطر ما في هذا الحوار أن يتحول أي من الفريقين إلى سلطة تحاول أن تنفرد بالقول وتلغي الوجود الآخر، وتغتال التعددية الصوتية وتلك واحدة من محاولات تسييس الحوار الثقافي وتحويله إلى حوار سياسي عربي يلغي الآخر بموجبه وبموجب خطابه المعلن منذ 14 قرنا في مقولة معاوية بن أبي سفيان:

«نحن لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا».

ويبدو أن الحداثيين قد حاولوا أن يحولوا بين الأصوليين وسلطانهم، فحيل بينهم وبين ألسنتهم!

الغموض في أدب الحداثة نثراً وشعراً، الذي يشتكي منه الأصوليون مرده غربة الأصوليين عن هذا الأدب، الذي بحاجة إلى قراءات تاريخية واجتماعية وفكرية معمقة، لكي يستطيعوا استكناهه، فكلما ازدادت المعرفة انتفى الغموض وانتفى معه الخوف أيضا في أي مجال من مجالات الحياة، فالجهل بالشيء وعدم استطاعة المرء استيعابه، نتيجة لعدم امتلاكه لمفاتيحه المعرفية، هو الذي يسبب الإحساس بالغموض والخوف أيضاً.

فلا شيء غامض غموضا مطلقا.

هناك غموض نسبي حسب نسبة التحصيل المعرفي لكل امرئ. وهناك غموض آني حسب المرحلة المعرفية التي يعيشها المرء.

إن الأصوليين يضيقون بلغة الحوار أو أن صبرهم في الحوار، وعلى الحوار حال ما ينفد، بل إنه في بعض الأحيان يصرحون برفضهم للحوار ويعتبرون الدخول في مناخ الحوار نفقا مظلما وخطيرا يقودهم إلى مفازات قد يفقدون فيها الطريق. لذا فهم يرفعون شعار (افعل ما تراه مناسباً) وهنا مكمن الخطر، وانعطاف بالحوار ومطلبه إلى لغة أخرى، قد تجر إلى فتنة.

من الواضح أن الحداثيين متمكنون من التراث وفكره، وهم له دارسون وواعون وعيا عميقا، وهم له متفهمون ومتيقظون، ومن هنا جاءت ردودهم العميقة الموثقة بنصوص واضحة ومقنعة من التراث، مما أحرج كثيرا من الأصوليين الذين كانوا يعتقدون بأن الحداثيين عندما ركبوا بحور التغيير فإنهم ركبوها وهم لا يملكون بوصلة الثقافة العربية الإسلامية، وبأنهم لم يكونوا ربابنة وبحارة عالمين إلى أين هم سائرون، بقدر ما كانوا مجموعة من الغر المغامرين، إلا أن ما قرأناه من ردود حداثية على طروحات أصولية قد أثبت لنا أن هذه الكوكبة من المثقفين كانت في إبحارها مودة ببوصلات التراث وثقافته، والتي كانت هداية علمية لهم وسط هذه اللجنة واللجاج.

إن ما يستوقف المحلل والدارس ويدفعه إلى التأمل هو أن يد الأصوليين بعد عام 1989 وبعد إسكات الأصوات الحداثية كافة، ظلت طليقة في حين أن يد الحداثة غلت وعندما حدثت أزمة الخليج وحرب الخليج 1991/‏1990 هاجم الأصوليون قرار استدعاء القوات الأجنبية بشراسة عبر منشوراتهم وعبر أشرطة الكاسيت، وكانت كتابات من كتب منهم ضد غزو الكويت كتابات سطحية لا تنم عن وعي وإدراك عميق لما يتم في المنطقة، في حين وقف معظم المثقفين الحداثيين إلى جانب قرار استدعاء هذه القوات وهاجموا غزو الكويت هجوما علميا موضوعيا منطقيا، وكان لمعظمهم موقف يتسم بالحس الإنسان والفهم العميق لما يتم في المنطقة وكأن هؤلاء المغلولي الأيدي كانت لهم أيدٍ أكثر طولا وإخلاصا للوطن من الطلقاء عندما قرعت القارعة، وحلت الحاقة وزلزلت الأرض زلزالها.