يقول يورجن هابرماس: «إننا نتخلص بواسطة تحليل اللغة، من عمق الروح من دون أن نفقد روح العمق. إننا نستمتع بمزايا النزعة الوضعية، من دون أن نقاسمها فضاضتها التجريبية». تمثل مقولة هابرماس عنوانا عريضا للفلسفة التحليلية التي سعت لتحويل الفلسفة العامة إلى فلسفة للغة، حتى أننا نجد أكثر الفلاسفة التحليليين قد اختصوا بدراسة المشكلات اللغوية ولا يكتبون إلا في اللغة وعن اللغة، فقد أسهمت اللغة في توجيه البحث الفلسفي الغربي، حتى اقتصر على التأمل في اللغة كموضوع واحد ووحيد عند بعض الفلاسفة، لدرجة أن فيلسوفا هاما مثل فيتغنشتاين أرجع كل مشاكل الفلسفة إلى سوء فهم اللغة، حيث تمحورت فلسفته على تحليل اللغة من خلال توضيح الأفكار وتشريح ألفاظ وعبارات العلوم لتقرير ما إذا كانت سليمة، وإلى أي حد توافق الاستعمالات الجارية للغة.

في المنهج السلفي، الذي يتعامل مع اللغة كأداة هامة في دراساته للشريعة الإسلامية، ولا نبالغ لو قلنا إن المنهج السلفي في الحقيقة ليس إلا منهجا لغويا في جوهره، ومن خلال اللغة أصبحت العودة لمجتمع «السلف» تزداد أهمية مع مرور الزمن وتتابع العصور، فاستشعار ما عاشه السلف يتطلب العودة إلى لغة السلف، فالمجتمع السلفي يمتلك ميزات عديدة لا تنطبق على أي مجتمع لاحق، وأهمها أنهم ناطقون باللغة التي نزل بها الوحي، فاللغة العربية الفصحى هي لغتهم الأم، وفهمهم للنصوص المقدسة يعد معيارا لغويا لفهمنا لهذا النصوص.

والإلمام بلغة السلف يمثل ضرورة حتمية لفهم التشريع، فكما نعلم أن الألفاظ والمعاني المستخدمة تتطور وتتبدل مع الزمن، وعدم العودة للغة ذاك العصر سيؤدي بنا للوقوع في أخطاء فاحشة في التفسير، لذلك نحتاج لدراسة لغة العصر المكتوبة فيه، بل ولغة المؤلف وأسلوبه اللغوي، وفهم سياقات النصوص، فإخراج الكلام من سياقه لسياق آخر وبالذات إذا كان سياقا حديثا فيه تزييف وتحريف لأفكار المؤلف.

يجب علينا أن نضع في الاعتبار المسافة الموجودة بين روح النص الحرفي الأصيل وروح العصر الحديث، وهذه المسافة لا يمكن التغلب عليها إلا بالعودة إلى الماضي ولغته كي نصل ما انفصل من حركة المعرفة التاريخية للشريعة، فالسلفية تسعى إلى إعادة بناء الماضي انطلاقا من اللغة، فالإنسان كي يفهم اللغة يجب أن يحيا فيها ويخاطب أهلها، اللغة هي الوسط الذي يتم فيه تفاهم أطراف الخطاب والتوافق فيما بينهم على الشيء، ومن خلال اللغة تتلاقى كل الأطراف، المرسل والمرسل إليه، السلف والخلف، في عالم تفاهم مشترك.

من هنا أصبحت الرواية ذات أهمية كبيرة في المنهج السلفي، فهي ضالته ومبتغاه، لأنها الحامل اللغوي لأحداث الماضي، فقد وضعت الرواية على طاولة التحليل وطرحوا عليها الأسئلة لاستنطاقها وسؤالها عما تريد قوله، وقبل كل ذلك هل هي تقول الحقيقة بالفعل؟ إن معرفة ثبوت حدث تاريخي من عدمه مهمة شاقة في شتى المجالات، والوصول لأقرب صورة حقيقية ممكنة للتاريخ الذي لم نعشه، يتطلب استنفار كل الأدوات اللغوية إلى حدودها القصوى لإقامة صرح نظري متكامل ومتماسك عن اللغة وكأنها صورة للعالم.

سوف يلعب «مجتمع السلف» الوسيط اللغوي الذي من خلاله نستطيع ترجمه مصادر الشريعة الأصلية، ودونه فإننا سوف نفقد أداة تحليلية هامة لا بد منها لإزاحة الضباب المتراكم على عدسة التاريخ ومسيرته الطويلة، بفعل التدخلات البشرية التي كانت ولا زالت تزاحم الشرائع السماوية وتتورط أحيانا في تحريف قيمها ومبادئها، فكانت حدود اللغة المصونة هي السياج المنيع أمام تدخلات البشر وتأويلاتهم المتوافقة مع أذواقهم وآرائهم.

الحضور المكثف للمجتمع السلفي في المنهج السلفي كوسيط لغوي يساعد على فهم النصوص ويمنح زيادة في الإيضاح، فالمسافة الطويلة التي تفصلنا عن المصادر الأصلية للتشريع تتطلب وجود الناطقين باللغة الذين عاشوا زمن نزول الوحي وخاطبهم أول من خاطب، كي نتعرف على آرائهم ووجهات نظرهم ونتوصل معهم لأقوال مشتركة.