لا أعلم متى يمكن للدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية أن تستفيق من غيبوبتها، أو ربما سكرتها؟، فكما يبدو أن جميع النخب ممن كانوا يكرسون لنا مفهوم الحرية والديمقراطية ومصالح الأمة في سبات عميق، بات سببا في غياب المفهوم السياسي العاقل الذي يمكن له أن يدير دفة العلاقات الأمريكية، ولا سيما مع الخليج، والسعودية على وجه الخصوص.

يؤكد ذلك الغياب التخبطات التي تتصدر المشهد العام في واشنطن على الأقل خلال السنوات العشر الماضية، فذاك رئيس أعاد لإيران قوتها من خلال اتفاق نووي يهدد السلم العالمي بأسره، وغادر البيت الأبيض وعاش العالم على بقايا غباء سياسي، وآخر كان يعامل العالم بواسطة منصات التواصل الاجتماعي كمدير تنفيذي لشركة كبرى، هدفها الأول والأخير جني أكبر قدر من الصفقات والمال، والعالم مجرد موظفون في إحدي شركاته، والأخير بدأ عهده بأقصى أنواع اللامبالاة، عبر منحه أحد محاور الشر في منطقتنا مزيدا من القوة. تلك الصورة السوداء تقودني لطرح سؤال، أثق أن إجابته معدومة: كيف يمكن للدولة العميقة في أمريكا تفهم أن الوقت قد حان للنزول خطوة واحدة للأسفل، للتساوي مع العالم البشري، وعدم النظر له من برج عاجي؟!، وكيف يمكن لها التكيف مع واقع أن العالم ليس الولايات المتحدة الأمريكية وحسب، بل الصين وروسيا وجزء من أوروبا، والشرق الأوسط، المحرك الاقتصادي والنفطي الكوني؟! وأن عليها، باعتبارها رفعت شعار الاستغناء عن النفط خلال سنوات مقبلة، أن تقبل استغناء الدول النفطية عنها كـ«تاجر سلاح»، والبحث عن بدائل، وهي متوافرة وليست بحاجة إلى مزيد من البحث.

ومن جانب يعنى بالشعوب، وهي أهم من الحكومات التي تعد عنصرا متحركا في السياسة، أتساءل: كيف يمكن لمواطن أمريكي، بوصفه العنصر الثابت في المعادلة السياسية، أن ينام قرير العين، وعلى حدود دولته التي تربطه مع المكسيك – على سبيل المثال – جماعة مارقة تلقى الدعم السياسي والعسكري من دول عدة؟! ماذا سيكون حال ذلك الإنسان الأمريكي لو تم استهداف واشنطن بصاروخ باليستي أو طائرة مُفخخة؟ كيف سيواجه رئيسه الذي انتخبه وجاء به من أوسع أبواب ما يسمى «ديمقراطية»؟.

وماذا سيكون عليه الرأي الأمريكي لو عاد الإرهاب الحقيقي الذي عانته الولايات المتحدة الأمريكية والعالم برمته، ممثلا في تنظيمي «القاعدة» و«داعش»؟، وماذا لو كان رفع اسم جماعة الحوثي الإرهابية من قوائم الإرهاب مبررا لتلك التنظيمات لاستعادة قوتها ونشاطاتها؟، وكيف يمكن أن تكون ردود أفعال المجتمع الأمريكي على خطوة إدارته الجديدة، وإمكان استغلالها غطاءً يمنح الشرعية لعودة الإرهاب أيا كان شكله وصوره للواجهة من جديد، واستهدافه الحياة الآمنة والمستقرة للمواطن الأمريكي؟.

فالإرهاب الذي استهدف أمريكا وأوروبا والعالم لم يُقض عليه عن بكرة أبيه، بل لا يزال باقيا على شكل تنظيمات خاملة أو راكدة، تتحين الفرصة للعودة بشكل أكبر وأشرس، والخشية كل الخشية أن تكون تلك الخطوة الأمريكية بمنزلة عملية إنعاشية يستفيق من خلالها الإرهاب العالمي، حينها سيكون الرئيس وفريق عمله في أقبية معزولة، بينما يكون الإنسان الأمريكي في مواجهة تلك الوحوش والذئاب المنفردة.

أتصور أن تصفية الحسابات بين الإدارة الأمريكية السابقة والحالية تفوح رائحتها، وأن رفع جماعة الحوثي المارقة الإرهابية من قوائم الإرهاب كان أحد قرائنها ودلائلها.

ومن باب ذر الرماد في العيون، أبقت واشنطن على قيادات الحوثي في تلك القوائم، وذلك لا يعني عامل اطمئنان للحلفاء في المنطقة، ولا تحذير للجماعة المارقة التي تلقى كامل الدعم السياسي والعسكري من إيران. إن الخشية لدى بعض الأطراف أن يكون ذلك القرار تمهيدا لرفع العقوبات الاقتصادية عن الجمهورية الإيرانية، أو العودة للانبطاح الأمريكي لطهران من خلال عودة العمل بالاتفاق النووي الباطل والمبطل، وذلك ليس تنظيرا إنما إشارات يفرضها لجوء الإدارة الجديدة لاستبعاد جماعة تصفها واشنطن، حسب المزاج السياسي، بـ«الإرهابية»، ووفق ذاك المنطق تقف إلى جانب الرياض في الحفاظ على أمنها من الإرهاب الحوثي، وذلك منتهى الغباء والصفاقة السياسية المبني على أوراق الحسابات الأمريكية الداخلية دون النظر للمصالح العليا للدولة.

ما يُمكنني الخلوص لقوله إن المملكة العربية السعودية، حسب ما أفهم كمواطن سعودي أولا، ويعي التناقضات الأمريكية ثانيا، أكبر من الشعارات وأوراق الابتزاز السياسي التي قد تلقى من هنا أو هناك. وأفهم أن المملكة لا تراعي اختلاف الخطوط والأجندات السياسية القادمة من أي وجهة، وأدرك أن المملكة، باعتمادها على إنسانها أولا وأخيرا، تملك القدرة على حماية نفسها، والاستمرار في التنمية والتطلع للمستقبل الذي، وبكل أسف، تراه كثير من العواصم الغربية لن يتحقق إلا بمساندتها ودعمها. تلك الكذبة التاريخية، التي اقتنعت بها تلك العواصم، ويعمل السعوديون على تبديدها بالتنمية ومشاريع النهضة، وتغيير وجه الدولة إلى شكل عصري حديث، وأنا على يقين أنه سيأتي يوم ما، سترد للغرب بصوت عال «اقتلعوا الشوك من أجسادكم لوحدكم.. ليس لدينا مزيد من الفرص لمجاملتكم.. انتهى وقتكم.. إلى اللقاء».