تزايدت خلال الفترة الماضية الحالات التي كشفتها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، لعمليات تهريب أموال مجهولة المصدر إلى خارج المملكة، وهي مبالغ طائلة تفوق مئات الملايين من الريالات يتم اكتشافها بصورة متكررة، مما يشير بوضوح إلى أن اقتصادنا الوطني يفقد كتلة نقدية ضخمة تتسرب من الدورة المصرفية الرسمية إلى حسابات خارجية مشبوهة. وهذا التسرب يؤثر سلبا بدون شك على القدرة الشرائية ويتسبب في تراجع مقدار السيولة في الأسواق، مما يؤدي في الآخر إلى حدوث انكماش وركود اقتصادي.

بداية فإن الجهود الضخمة التي تقوم بها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد هي جهود مقدرة تستلزم الشكر والإشادة والثناء، استنادا على النتائج الباهرة التي تحقّقها، والكم الكبير من البلاغات التي تمت مباشرتها وكشف أوجه الفساد فيها، وما كان ذلك ليتم لولا توفيق الله أولا، ثم الدعم الكبير والمطلق الذي تجده الهيئة من القيادة الحكيمة على أعلى مستوياتها ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - والدليل على ذلك هو أن أبواب كافة المؤسسات الحكومية باتت مفتوحة أمام الهيئة للتحري، حيث شملت أعمال التحقيق مختلف الوزارات ورئاسة أمن الدولة، وهو ما يجسد المقولة الشهير للملك بأن سيف العدل سيطال كل مفسد «كائنا من كان»، وتأكيد ولي العهد على أنه لا أحد فوق المحاسبة والمساءلة، ولا كبير على القانون.

مع تكرار كشف تلك العمليات حسبما تعلنه الهيئة في وسائل الإعلام تتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلة حول مصدر تلك الأموال، والسبب في تهريبها بتلك الصور الملتوية. وتكمن الإجابة في أن القاسم المشترك بين تلك الأموال هو أنها ناتجة عن عمليات غير شرعية، ترتبط بغسيل الأموال، أو تجارة المخدرات، أو الاتجار في العملات أو السرقة وغير ذلك من الممارسات الممنوعة، لذلك يلجأ أصحابها إلى تهريبها خارج المملكة خوفا من المساءلة القانونية عن مصادرها.

ويلجأ كثير من المقيمين في المملكة من جنسيات عربية وآسيوية إلى تحويل الأموال إلى ذويهم في بلدانهم عبر سماسرة يقومون باستلام تلك الأموال في المملكة، ومن ثم يقومون بتسليمها بالعملات المحلية للمستفيدين في الدول المستهدفة، للتكسب من هامش الفرق بين الأسعار الرسمية للدولار والعملات الصعبة وأسعار السوق السوداء، مع أخذ عمولة عن عمليات التحويل. ومن مخاطر هذه العملية أنها تحرم البنوك الوطنية من العمولة التي تتقاضاها نظير تحويل تلك المبالغ بصورة نظامية وآمنة. كذلك فإن عمليات الرشاوى التي تتم ضمن قضايا الفساد يترتب عليها في كثير من الأحيان تقديم مواد عينية مثل السيارات والعقارات والمجوهرات لفاقدي الذمة والضمير، وهؤلاء يلجؤون إلى بيعها والتخلص منها ولو بأقل من أسعارها الحقيقية، لتحويل الأموال إلى الخارج وشراء منقولات وعقارات في دول أخرى لا تتم مساءلتهم فيها عن مصادر تلك الأموال، وهذا يؤدي بدوره إلى الإضرار بكيانات نظامية تعمل في تلك المجالات ويمنع وجود منافسة شريفة.

ولا يخفى على فطنة القارئ الكريم بطبيعة الحال المخاطر الكبيرة التي تنطوي على عمليات التحويل غير النظامية للأموال، فإضافة إلى أنها تحرم الاقتصاد الوطني من العملات الصعبة، وتقلّل حجم الكتلة النقدية في الدورة الشرائية، فإنها تساعد على استشراء عمليات غسل الأموال، وإكسابها شرعية زائفة، وتشجع عمليات الفساد المالي، وتؤدي إلى ازدهار كثير من أنواع التجارة المحرمة مثل تجارة المخدرات.

ومع الإشارة إلى أن الدولة تبذل جهودا كبيرة في محاربة كافة أنواع التستر التجاري، لحماية الشباب الوطنيين وتوفير فرص عمل مناسبة لهم في مجالات ريادة الأعمال، فإن تحويل الأموال المجهولة إلى الخارج هو أسوأ أنواع التستر، لأن العملية لا يمكن أن تتم إلا بمشاركة عناصر وطنية تقوم بفتح حسابات مصرفية بأسماء كيانات تجارية وهمية حتى يمكن تهريب الأموال عبرها إلى الخارج. وقد أشارت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد إلى أنه تم ضبط العديد من المواطنين الذين ارتضوا المشاركة في تلك العمليات نظير عمولات محددة يتقاضونها من تلك الأموال.

ولا يفكر البعض ممن امتهن الربح السريع في ما تنطوي عليه تلك الممارسات المالية من جوانب في غاية الخطورة، وما تتضمنه من مخالفات عديدة للأنظمة، فمجرد تمكين الغير من استخدام حسابك البنكي لغرض التحويل إلى حسابات مصرفية أخرى تحت أي مسوغ كان هو مخالفة تستوجب العقاب، لأن الحساب البنكي هو نافذة مصرفية شخصية لصاحبها فقط، كما تقتضي الأنظمة والتعليمات وجود سبب مشروع لهذه الأموال المحولة. حتى لو كان المبلغ الذي يراد تحويله بسيطا فإن ذلك لا يعفي من العقاب، لأن هناك من تخصص في تجزئة الأموال المشبوهة إلى مبالغ صغيرة وتحويلها إلى عدة حسابات مصرفية غير معروفة؛ حتى لا تثير الريبة عند تحويلها، وهذه العمليات تنشط فيها عصابات وافدة طامعة في الربح السريع، حتى لو كان المقابل هو تدمير اقتصادنا الوطني.

ولأن حسن النية لا يعفي من العقوبة، ولعدم تمكين البعض من التذرع بعدم معرفة القوانين، فإنه قد يكون من المناسب تدشين حملة توعوية وإعلامية لتبصير العامة من مخاطر تلك الممارسات السلبية، حتى تتمكن الأجهزة المختصة من تشديد الرقابة على سجلات تحويل الأموال التي تقوم بها البنوك التجارية، وضبطها بالقدر الذي لا يسمح بتسريب الأموال إلى مصادر مجهولة، عبر حسابات شخصية تعود لأشخاص غاية طموحهم أن يتقاضوا الفتات.