يعرف السبكي القاعدة الفقهية بقوله: «الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات يفهم أحكامها منها» يلخص هذا التعريف جل مجهودات الفقهاء عبر التاريخ في سبيل دراسة السلوك البشري في نطاق الخطاب الشرعي، السلوك البشري بتعدده وتنوعه وتعقيداته التي تجعل من مسألة إدراجه ضمن مبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكاما شرعية تسعى لتسهيل فهمه وتقربه إلى أذهان الناس عملية ليست باليسيرة.

مسألة تنظيم سلوك الإنسان الديني ضمن معايير ومحددات ليست عملية سهلة بل هي تتطلب وجود نظرية قادرة على الوصف والتفسير، كي تستوعب النصوص الشرعية أحكام الحوادث والمستجدات بحيث تواكب حركة الحياة المتغيرة والمتطورة، وتجمع الشتات المتناثر والمتراكم من السلوكيات البشرية لتشكل مجموعا واحدا، حتى يمكن تحديد موقف التشريع السماوي منها.

فالنظرية الفقهية تسعى لتحقيق الوحدة الشرعية في السلوك البشري داخل مجموعة من العلاقات والعبارات الثابتة والقابلة للوصف، أي أنها من خلال النصوص المحددة تقوم بصياغة قانون توزعها. فهل نجحت هذه النظرية- فعلا- في تحديد ما يصدر عن الإنسان البالغ من أقوال وأفعال واعتقادات لا تخرج عن نطاق خطاب الشرع، وبالتالي سهلت عملية استنباط الأحكام من مصادرها؟

كان الهاجس الذي يقلق الفقهاء يدور حول إقامة نظام يسهل عملية استنباط أحكام ما لم يتضمنه النص الشرعي من الجزئيات والمستجدات والحوادث المستمرة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، كي لا تكون عملية الاستنباط رهينة التأويل الاعتباطي والتخمين؛ لذلك ظهرت أهمية النظرية الفقهية بوصفها «أداة» تهدي الفقيه أو المجتهد أو حتى الإنسان العادي، وتسمح له بالاستدلال على ما يعتقد أنه حكم خاص بمسألة معينة.

أتاحت النظرية الفقهية للمجتهد، حتى لو كان شخصا عاديا، أن ينظم أفكاره للوصول للحكم الشرعي لأي سلوك بشري، فهي أداة تنظيمية ليس إلا، وأهم مظاهرها التنظيمية أنها اختزلت السلوك البشري من المنظور الديني ضمن خمسة معايير: سلوك محرم وسلوك مباح وسلوك مندوب وسلوك واجب وسلوك مكروه. فكل أفعال الإنسان تخضع لهذه المعايير الخمسة، وليس على المجتهد إلا أن يستخدم أدواته التأويلية للوصول للحكم الشرعي الذي يندرج تحته السلوك، وهذا ما يؤكد أن النظرية الفقهية نجحت عمليا في أهدافها التي تسعى إلى تحقيق الوحدة المفهومية للسلوك البشري من المنظور الديني.

انتظمت أفعال المكلفين، وكل ما يصدر عن الإنسان البالغ العاقل من أقوال وأفعال ومعتقدات، داخل إطار الخطاب التشريعي، أي أدلته المعروفة بالأدلة النقلية من القرآن الكريم والسنة النبوية. فكل سلوكياتنا اليومية أصبحت تندرج تحت الخطاب الشرعي وأضفي عليها الوصف الشرعي من حيث كونها واجبة أو مندوبة أو مباحة أو محرمة أو مكروهة.

لقد أثرت النظرية الفقهية في سلوكنا نحن أبناء العصر الحديث، فنحن نسير على خطى الفقهاء بوعي أو من دون وعي عندما نريد أن نضع معيارا شرعيا لأفعالنا اليومية والقضايا المستجدة التي تواجهنا، فالنظرية الفقهية تسيطر علينا وتوجه سلوكنا الديني، فالقواعد الفقهية التي أنتجها الفقهاء مكنت المجتهدين في كل زمان ومكان من استنباط الأحكام من النصوص وربطها بعللها التي تبنى عليها، ومقاصد الشرع منها، إن هذه النظرية الفقهية أصبحت بمثابة المعيار العلمي الذي يحكم اجتهادنا ويحمينا من اعتباطية التأويل، فكل ما يصدر عن الإنسان من عقائد وأخلاق وعبادات ومعاملات، يقع حتما داخل إطار الخطاب الشرعي.