لا يمكن لمراقب موضوعي أن ينكر الأثر السلبي البالغ للانقسام الحاصل في صفوف القوى الدولية الخمس الموقعة على الاتفاق النووي مع إيران، حيث يلعب هذا الانقسام دورا خطيرا في تشجيع الملالي على مواصلة انتهاك التزاماتهم الواردة في هذا الاتفاق، فالحاصل أن الصين وروسيا في كفة وبقية القوى الدولية المشاركة في الاتفاق (الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) في كفة أخرى.

وقد تفاقمت هوة الخلافات خلال ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، بنشوب خلاف ثالث بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين حول تكتيكات التعامل مع الثغرات التي تشوب الاتفاق النووي. لا أحد يطالب الصين وروسيا بتغيير مواقفهما حيال الاتفاق النووي، ولا التخلي عن علاقاتهما الإستراتيجية القوية مع ملالي إيران، ولكن يفترض ألا يتعارض ذلك كله مع متطلبات الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

كما يفترض ألا تتعارض التزامات القوتين حيال طهران مع متطلبات علاقاتهما الإستراتيجية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث يفترض أن تنصت موسكو وبكين لصوت عواصم دول الجوار الإيراني، وتدرس هواجس هذه الدول حيال الدور الإقليمي الإيراني المهيمن، وكذلك دور طهران في زعزعة أمن واستقرار دول عربية عدة، بما ينعكس سلبيا على أمن الإقليم واستقراره، ناهيك عن دور إيران في زعزعة أمن بعض دول مجلس التعاون، ولا سيما من خلال دعم وتمويل الميليشيات الحوثية التي تواصل الاعتداءات العسكرية على المدن والمدنيين في المملكة العربية السعودية.

اُدرك تماما أن العلاقات الإيرانية مع كل الصين وروسيا لها أبعاد إستراتيجية عميقة، وأن ملالي إيران يلعبون أدوارا تخدم أهداف الدولتين في إطار لعبة توازنات القوى الدولية، وأن إيران يمكن أن تستخدم ـ ضمن إطار تبادل مصالح ـ في لعب دور «مخلب القط» الذي يشاغب القوة العظمى المهيمنة على النظام العالمي، ويسهم في تآكل نفوذها ودورها العالمي لمصلحة منافسين إستراتيجيين آخرين، ولكن يجب الانتباه إلى أن الملالي يتجاوزون حدود هذه اللعبة الإستراتيجية المعقدة، ويوظفون الانقسام الحاصل في المواقف الدولية بشأن ملفهم النووي من أجل الإفلات من الرقابة، والحصول على مبتغاهم النووي، وترسيخ نفوذهم الإقليمي، ومقايضة هذا النفوذ في مراحل لاحقة بمكاسب بديلة على حساب أمن واستقرار ومصالح بقية دول وشعوب الإقليم. لا أعتقد أن حصول ملالي إيران على قدرات تسليحية نووية يصب في مصلحة روسيا أو الصين، ولا أعتقد كذلك أن الملالي يشاطرون هاتين القوتين المبادئ نفسها بشأن الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي، ولا سيما حقوق السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، إذ أن النظام الإيراني هو المثال الأبرز عالميا في انتهاك هذه الحقوق والافتئات عليها، فكيف له أن يحصل على مساندة قوى دولية ترفع شعارات الدفاع عن هذه الحقوق والمبادئ؟!. كما لا يصح أن تتحول أزمة خطيرة تتماس مع الأمن والاستقرار في العالم أجمع إلى موضوع للعناد والمناكفة السياسية بين القوى الكبرى، ولا سيما إذا كان الطرف الآخر في الأزمة ـ وهو ملالي إيران ـ يجيد استخدام وتوظيف تباين وجهات النظر الدولية، ويواصل انتهاك التزاماته الواردة في الاتفاق النووي، ويجاهر كذلك بالسعي للحصول على قدرات تسليحية نووية!.

ثمة نقطة أخرى مهمة تستحق النقاش وهي مسؤولية القوى الدولية جميعها عن تحقيق وضمان الأمن والاستقرار العالمي، بما في ذلك ضمان التزام جميع الدول بمسؤولياتها الواردة في اتفاقيات حظر الانتشار النووي، حيث إن الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ملتزمة بشكل تضامني بتنفيذ أهداف المجلس والاضطلاع بمسؤولياته، ومن ثم فالأمر ليس حصرا على الولايات المتحدة أو غيرها، بل هو مسؤولية مشتركة للدول الخمس الأعضاء، وهم أنفسهم (بالإضافة إلى ألمانيا) الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي مع إيران ضمن مجموعة «5+1».

وعلى الرغم من أن البعض قد يرى أن هناك خلافا بين القوى الكبرى حول مدى فاعلية الاتفاق النووي، فإن الشكوك حول هذه الفاعلية لا تقتصر على الغرب، فيجب ألا ننسى هنا أن دول الجوار هي الطرف الأكثر انكشافا وتأثرا بثغرات الاتفاق النووي، وهي من تنبه بشدة إلى خطورة هذا الاتفاق وعيوبه وجوانب قصوره، وما تسبب فيه من تقويض لأمن الشرق الأوسط، بوصفه أنه كان بمنزلة ضوء أخضر صريح ومباشر وفر لملالي إيران الغطاء للتمدد إستراتيجيا، وتشكيل ما يحلو لهم من ميليشيات طائفية تعيث فسادا في كثير من الدول العربية والشرق أوسطية، وتهدد أمنها واستقرارها.

الخلاصة.. أن وحدة القوى الدولية في مواجهة طموحات ملالي إيران يجب أن تتجاوز مسألة الخلافات والتباينات التكتيكية بين هذه الأطراف، وحسنا فعلت إدارة الرئيس بايدن حين أعلنت انفتاحها على مفاوضات سداسية (تضمن أعضاء المجموعة الدولية الموقعة على اتفاقية العمل المشتركة مع إيران في 2015) بشأن الاتفاق النووي، فالمفترض أن يستمع الملالي إلى صوت واحد من القوى الكبرى المعنية، لأن القانون الدولي ومبادئه لا يتجزأ، ولا ينطوي على بنود لها تفسيرات شرقية وأخرى غربية، والحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي لن يتحقق سوى بعد إغلاق باب الثغرات التي تخيم على المواقف الدولية قبل التفكير في معالجة الثغرات التي تشوب اتفاقا وقعته القوى الدولية نفسها قبل نحو 5 أعوام.