برحيل الوالد الشيخ أحمد زكي يماني للرفيق الأعلى، الإثنين الماضي، واستقرار رحلته الأخيرة فجر الخميس في «شعبة النور» بمقبرة «المعلاة»، بمكة المكرمة التي أحبها، وعاد إليها بعد غيبة «9» سنوات و«3» أشهر؛ تكون «93» صفحة من صفحات التاريخ قد طويت؛ عن المهتمين بالرجال الأفذاذ، في مملكتنا السعودية الغالية، والعالم أجمع.

شخصيًا، يصعب عليَّ حاليًا التنقيب في صفحات من كان يمثل لي ولأهل بيتي معنى كبيرًا، وسأتجاوز مساهماته العملية في رفعة وطنه، وطاعته لأولي أمره، وخدمته لهما، لأنها معروفة عند الكثيرين.. لقد كنت وما زلت ممتنًا للحظات التي جمعتني بالراحل الكبير، وخصوصًا عندما يتحدث عن الشرع والدين، ليعلمني عن أهم الدقائق، ومما رسخ ولا يمكن نسيانه، استرساله مرة في أوجه تفسير قوله تعالى، في سورة الأنعام: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ»؛ قال: الله يخبرنا وينبهنا إلى أن المواعظ لم تنفعهم، والنصائح لم توقظهم، وتسهلت لهم أسباب العوافي، وزيادة النعم، وأبواب الراحة، وظنوا أنهم في مأمن، ولكنهم أخذوا، وقطع دابرهم، وهم في رخاء وطمأنينة، ليكون أشد إيلامًا وحسرة.

لا يمكنني نسيان إبحاره في علم «أصول الفقه»، الذي برع فيه وعشقه، حتى أنشأ مركزًا خاصًا به، سماه «مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية»؛ وتركيزه في جلسة علمية محفورة في الخيال، على ضرورة التفريق بين «فقه النصوص وفقه المقاصد»، وقوله إن الظروف تغيرت وتتغير، وفقهاؤنا أبدعوا في الماضي، وخلفوا ثروة نعتز بها؛ بعضها بنوها على عرف تغير ومصالح تبدلت، ونحن اليوم في حاجة لإعادة النظر في فقهنا؛ فهناك معاملات مستجدة، وتطبيقات حياتية لم تكن مألوفة أو معروفة، وتحتاج لحلول فقهية نستقيها من كتاب الله وسنة رسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا يكون عن طريق فقه مقاصد الشريعة، الذي عده من آليات تجديد الفقه وتطويره، بل أهمها.

عشق فقيدنا للفقه كبير؛ ودائمًا كان يؤكد أن الفقه الإسلامي علم جميل، ويقدر جمال تنوعه من يعرف أنه ينقسم لمذاهب مختلفة، وأن للفقهاء من كل مذهب طرائقهم في الاجتهاد والاستنباط، وأن علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة علم جميل كذلك، ويستطيع تذوق حلاوته، من علم أن عميد الفقه المقاصدي هو سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي يعلم المتبع لقضاياه مدى تمسكه بالمقاصد الشرعية عامة أو كلية أو جزئية، وأحياه من بعده فقهاء المدينة السبعة، الذين نقلوه لتلاميذهم، ومنهم للإمام مالك، صاحب المذهب المشهور.

الصور الذهنية عن الفقيد كثيرة، فقد منحه ربه شخصية وقورة، وحافظة قوية، وإلمامًا بالمعارف، ودقة في التوقعات، وبسطة في التفاصيل؛ جعلته دائمًا محل إنصات الغير، والسبب أعاده وأعيده، لتربية المسجد الحرام، وتعلمه في حلقاته، على يد والده العالم الفقيه السيد حسن بن سعيد يماني، وعميه السيدين صالح وعلي، ومعاصريهم من العلماء، وخصوصًا الشيخ حسن المشاط.

رحل عنا الشيخ الحبيب، بعد أن ترك في الأذهان كثيرًا من بصمات مكارم الأخلاق، كالبر، والتقدير، والشهامة، والحكمة، والوفاء، والأبوة، والأخوة، وحسن المظهر، وزكاء الرائحة، وسلامة الباطن، والقدرة على التغافل، والوصية بالوطن، ومراعاة الله فيه؛ رحم الله الشيخ الزكي، وعوضه الجنة ونعيمها، وعوض الكل في زوجه الجليلة، وأبنائه الأعزاء، وبناته المصونات، وعارفي قيمته.