لا صوت يعلو اليوم على صوت المطالبين بتجديد «الخطاب الديني»، فالكل يطالب بتجديد خطابنا الديني، والكل يناقش ويحلل هذا الخطاب الديني، وكيف يجدده وينقحه ويجعله مواكبا للعصر الحديث ومتطلباته ومتغيراته. فلا تكاد تخلو قناة فضائية أو صحيفة يومية من الحديث عن تجديد الخطاب الديني. فالتطور الحضاري وتغير الزمان والمكان يجلبان معهما أسئلة وتحديات جديدة، وأي خطاب ينشد الاستمرارية والبقاء لا بد له من مواكبة الواقع بالإجابة على أسئلته. خرج الحديث عن التجديد من دائرة المنهجية ودخل حيز العشوائية، فالحديث عن التجديد لم تعد تحكمه أي ضوابط، بقدر ما تسيطر عليه الاعتباطية في التفسير والتأويل، وغالب من يتحدثون عن التجديد لا يملكون العدة والأدوات الكافية لطرح منهجية جديدة وبديلة. إن تجديد الخطاب الديني يعني تجديد الخطاب الفقهي، أي طرح نظرية فقهية جديدة تحل محل النظرية القديمة، أو تعديلها أو تطويرها على أقل تقدير. فهل مسألة التجديد بهذه السهولة كما يظن كثير من الناس؟ أن الخطاب الديني القديم كان يرتكز على منظومة فقهية ذات تأثير وانتشار قويين، وهي اليوم تحضر أكثر من أي يوم مضى، وكلما حسبنا أننا تجاوزناها تفاجأنا بحضورها الطاغي الذي يجعل مسألة تجاوزها أصعب مما سبق. النظرية الفقهية القديمة تملك مادة لا تنضب لقراءة النصوص وقدرة على صناعة توليفة عجيبة تجمع العقل والنص لقراءة الواقع المعاصر، وأنا هنا لا أتبنى مقولة «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، فباب الإبداع مفتوح على الدوام، وقدرة الإنسان على الإبداع لا يحدها حدود. ولكن رفض النظرية القديمة يتطلب منا أولا، توضيح جوانب القصور فيها وتسليط الضوء على مكامن الضعف التي تجعل منها نظرية عاجزة عن قراءة الواقع المعاصر بالطريقة الصحيحة، وبالتالي تقديم النظرية المحدثة أو البديلة لها. ورفض المنظومة الفقهية القديمة والقطيعة معها، دون تقديم أي بدائل لها، سيخلق فراغا شاسعا وفجوة يصعب ردمها. وكما أسلفنا بأن التجديد الديني يعني تجديد النظرية الفقهية، بمعنى تقديم نظرية للمعرفة تشكل المقدمة الضرورية لأي خطوة نحو التجديد، فنظرية المعرفة تمثل مدخلا مهما لفهم نصوص الوحي الذي يفصلنا عن زمن نزوله مسافة زمنية طويلة للغاية تتطلب منا أداة تنظم أفكارنا للوصول لحقيقة التشريع السماوي، وهنا تبرز قيمة «نظرية المعرفة» ومدى جدوى أدواتها لإدراك الحقائق والتحقق من صحتها.

القواعد الفقهية أو النظرية الفقهية ليست في الحقيقة إلا نظرية للمعرفة، وعند الحديث عن نظرية المعرفة، يتبادر للذهن سؤال «إمكان المعرفة» أي هل المعرفة ممكنة؟ وفي حالة النظرية الفقهية: هل في وسع المجتهد من خلال نظرية المعرفة التي يتبناها (القواعد الفقهية) أن يستنبط الحكم الشرعي من مصادره، وأن يطمئن إلى صحة استنباطه؟ يبدو هذا السؤال بديهيا وسهلا للوهلة الأولى، ولكنه في الحقيقة ليس مباشرا ويحتاج لمنظومة معرفية متكاملة لا سيما إذا عرفنا أن المدة الزمنية التي تفصلنا عن زمن نزول الوحي ليست بالقصيرة، بمعنى أن سؤال إمكان المعرفة سيحاط بالمزيد من الغموض والضبابية. ومن هنا تبرز أهمية اللغة بصفتها الحلقة الواصلة بين عصر نزول الوحي وعصرنا الحديث. أي أن النظرية الفقهية أيضا تحتاج لنظريات مساندة متعلقة باللغة، ودون وجود نظريات لغوية تساعد في فهم النص، فإن المعرفة ستكون غير ممكنة. فضلا عن الحاجة نحو تطوير الألفاظ والمصطلحات الفقهية القديمة، وإعطاؤها دلالات ومضامين جديدة تلائم العصر وتستجيب لحاجاته. في كتب التراث، قدم الفقهاء نظرية متكاملة للمعرفة ذات أدوات متعددة يستعملها المجتهد لتحصيل المعارف واكتسابها بل وتوظيفها في إنتاج المعرفة، أبرز الأدوات المعرفية التي قدمها الفقهاء هي نظرية العامل في النحو التي تعالج الجانب اللغوي من النصوص الشرعية، وتعد نظرية العامل واحدة من أرقى وأعمق ما توصل إليه العقل البشري في الدراسات اللغوية، فقد حاول اللغويون، من خلال هذه النظرية، أن يجعلوا قواعدهم متماسكة ومطردة، والدافع بطبيعة الحال هو الحفاظ على لغة القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع، ومعرفة تأثير الدلالة النحوية في استنباط الأحكام من آيات القرآن التشريعية. ومن هنا نطرح السؤال التالي: هل بالإمكان تقديم نظرية لغوية بديلة تيسر عملية وصولنا إلى المعرفة الصحيحة؟ يجب ألا ننسى أن الباحثين العرب اليوم لم يقدموا أي نظرية في مجالات اللغة أو النقد أو البلاغة أو تحليل الخطاب، ولم يقدموا أداة منطقية بديلة للمنطق القياسي الذي قدمه الفقهاء. فالباحثون العرب اليوم يقتصر دورهم على استيراد النظريات الغربية واستهلاكها دون نقد أو تمحيص.