يُخالجني شعور داخلي كبير، حول الرغبة بمعرفة ماذا يعني سجن أبو غريب للرئيس الأمريكي الجديد وطاقم إدارته، وكيف ينظر هو وفريق عمله لمعتقل جوانتانامو المستأجر من قبل واشنطن بألفي دولارٍ سنويًا، أي ما يعادل 165 دولار شهريًا من كوبا، وهو الأكبر والأكثر شراسة وتجاوزًا لحقوق الإنسان والحيوان.

وبأي عينٍ سيرى بها فخامته العراق، التي نهب وبدد أموالها مندوب دولته «بول بريمر» في بغداد، بعد سقوط النظام الصدامي البائد، ومنح الجزء غير اليسير منها للمتطرفين، وما رؤيته حول أعداد القتلى الذين ذهبوا ضحايا للحرب التي شنتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، في أفغانستان، والذين تجاوزت أعدادهم 40 ألف مدني وهجَّرت ما يربوا على 11 مليون أفغاني باتوا لاجئين.

وماذا عن القتلى في العراق على يد قوات بلاده، الذين بلغ عددهم 200 ألف شخص، وتهجير حوالي مليوني عراقي من منازلهم وباتوا في العراء.. وكيف يُمكن أن يُفسر للشعب الأمريكي صرف قرابة 6 تريليونات دولار من قوتهم على تلك الحروب التي اشتعل فتيلها من قبل بلادهم كطرفٍ أُحادي. وكيف لدولة وفق منظور فخامته، انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، والاتفاق العالمي بشأن الهجرة، وأصدرت أمرًا تنفيذيًا يقضي بتجميد الأصول وحظر السفر لموظفي محكمة الجنايات الدولية وذويهم، أن تتشدق بالحريات وحقوق الإنسان، وبما يُفسر التقرير الصادر عن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، الذي أكد أن «جرائم الكراهية» لديهم سجلت أعلى معدل لها خلال العام الماضي 2019 منذ أكثر من عشر سنوات.

ووفق أي معيار سيرى فخامته ما يقارب 4500 طفل تم فصلهم عن ذويهم خلال 2019 أثناء محاولة تسلل أسرهم لأمريكا من المكسيك، ومتى يُمكنه انتشال المرأة الأمريكية التي تفيد تقارير من بلاده، بأن 10 بالمائة من الرجال يعيشون تحت خط الفقر، يُقابلهم حوالي 13 بالمائة من النساء، بينما يستحوذ الطفل والمرأة على 70 بالمائة من نسبة الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُنافح عن المرأة في شتى نواحي بقاع الأرض.

وما القراءة المناسبة للإدارة الأمريكية الجديدة، فيما يتعلق بارتفاع الاعتداءات الجنسية، وذلك وفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي قال خلال 2019 إن ما يزيد على 139 ألف حالة اغتصاب تعرضت لها نساء أمريكيات، لا سيما من الموظفات، وكيف سيحارب الرئيس التمييز الذي تسعى بلاده لمحاربته خارج حدودها من باب الافتراء والكسب السياسي، إذ أنه وبحسب بيانات مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال عام 2019، فإن أكثر من 4 نساء من بين عشرة تعرضن للتمييز في أماكن عملهن فيما يتعلق بالأجور والترقيات، بالإضافة إلى التمييز ضد الحوامل اللاتي يتم فصلهن لمجرد حديثهن عن الحرمان من الحقوق.

أمضيت ليلة بأكملها وأنا أُبحر في بُقع السوداوية والكذب والتسويف الأمريكي، ووجدت آلافًا من القرائن والدوافع التي تُثبت خداع هذه الدولة للعالم بأسره، وبلغ سقف قناعاتي أكبر مما أتخيل، إذ يُمكنني عدم التوافق مع كل ما يُمكن أن تتبناه أو تزعمه. فقد كان للتقرير الاستخباراتي الذي صدر عن جهاز السي آي أيه الأمريكي، بشأن مقتل الزميل جمال خاشقجي – رحمه الله – الفضل في دفعي للاطلاع على تلك المعلومات التي أقل ما يقال عنها أنها فضائح، لكنني سأنتقل من هذا الجانب، لإبداء الرأي فيما جاء في التقرير المزعوم، ومن هنا أقول إن أيًا من الاجتهادات والتفسيرات والقراءات، التي ستتجاهل التسويق السياسي والإعلامي «المقصود» الذي عملت عليه واشنطن منذ تولي الإدارة الأمريكية الجديدة دُفة الحكم في أمريكا لهذه القضية، ستكون أمام حتمية إما التناقض أو فقدان المصداقية والمضمون، وبالتالي السقوط في وحل «الهرطقات».

ومن باب ربط الأمور ببعضها وفق تسلسل مُعين، أجزم أنه لم تأخذ إدارة بايدن على عاتقها خلال أسابيع مضت، الترويج لما زعمت أنها معلومات حول القضية من باب الصدف أو الاعتباط، بل أمر اتضحت أهدافه ونواياه، ومن ثم فإنه مُخجل وفق المعايير السياسية والدبلوماسية الحديث عن ملفٍ أغلق لسببين، الأول هو قول القضاء السعودي المستقل كلمته الفصل، وأصدر أحكامًا على جميع من ثبتت إدانتهم، هذا أولًا، ثانيًا وهو الأهم، أن إغلاق ملف القضية كان برغبة من أسرة خاشقجي لأسبابها الخاصة، بعد أن حسم القضاء القضية، والحديث عن هذا الملف من أي جهةٍ خارجية اعتبره سقوطًا أخلاقيًا قولًا واحدًا.

ما زعمت واشنطن أنها معلومات، وعملت على تحضير الرأي العام العالمي لاستقبالها، بدت بعيده كل البُعد عن أي معلومة تفردت بها الإدارة الأمريكية بأجهزتها، إنما تحليلات فردية، قامت على آراء شخصية لبعض الساسة وأعضاء الكونجرس ورجال الاستخبارات تجاه المملكة، ولا تملك أدنى معيار للمعلومة كمعلومة، يُمكن لها أن تكون جديدة في ذلك الملف، ومن هذا المنطلق يُمكنني القول إنه من العار على الإدارة الأمريكية بداية عهدها مع العالم بهذا الإسفاف الذي تجسد بالكذب والافتراء.

أتصور أنه يجب أن يُدرك الساسة في المكتب البيضاوي أن للعالم عيونًا مُبصرة، يُمكنها النظر لإظهارهم شعار «النموذج الأمريكي» الذي سوقت له واشنطن أنه كذبة كبرى، هدفه الحفاظ على هيمنتها، باعتبارها تدعي الدفاع عن الإنسان، بينما تمارس بشكل فاضح معايير مزدوجة في قضايا حقوق الإنسان التي تضعها بحسب احتياجاتها السياسية الخاصة، في تأكيدات على انتهاكاتها للضمير الإنساني. سمعت مسؤولًا أمريكيًا يقول:

«سنعمل على ضبط العلاقات مع السعودية وليس قطعها.. يهمنا ضمان وقدرة السعودية على حماية نفسها»، المعنى السياسي لـ«ضبط» يعني أنها كانت عكس ذلك، وذلك يقودنا للتفكير بأن كل ما يُحاك من باب تصفية الحسابات بين إدارة سابقة ولاحقة. وبالتزامن مع ذلك يقول مسؤول آخر:

«لا تزال المملكة تتعرض لهجمات، ونأخذ مسؤولية الوفاء مع الرياض على محمل الجد».!

ذلك قولهم، وقولي -ولست مسؤولًا إنما مواطن ينظر للواجبات لا الحقوق- أقول لن تتمكنوا من كسر هيبتنا، ولا الانتقاص من تاريخنا، ولا من قوتنا، فلدينا القدرة على حماية بلادنا بأنفسنا دون الحاجة لكم، أما أنتم فتحاولون التسويق لأنفسكم بالكذب والتزلف والتزييف، على حساب شعاراتٍ باتت مكشوفة، ليس لنا فحسب، بل للعالم أجمع.