نعاني كثيرًا هذه الأيام من افتعال فجوات وجفوات مدروسة ومقصودة بين «الدين» و«العلم»، ومن ذلك الحديث في الغرف المظلمة، عن موضوع «العلِّية»، الذي يعد من أبرز الموضوعات الفلسفية الفكرية، ومن أعقدها كذلك؛ إذ إنها مرتبطة بجدليات كثيرة، مثل «الإلهي» و«الطبيعي»، وغير ذلك..

القرآن الكريم يعالج موضوعات «السببية والمسببية»، و«العلة والمعلول»، من خلال التأكيد على أن «الصدفة» مستحيلة، وأن الأمور كلها تعود إلى «القدرة الإلهية»، سواء تلك المتعلقة بالموت أو الحياة، أو الزلازل أو البراكين، أو القحط أو الفيضانات، أو غيرها من الحوادث المختلفة؛ ومن النصوص القرآنية الصريحة والحاسمة، قول الحق، سبحانه وتعالى، في سورة الرعد: «اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال»، وقوله سبحانه في سورة الحجر: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوم»، وقوله سبحانه في سورة الفرقان: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا»، وقوله سبحانه في سورة القمر: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر»، والآيات في هذا القطع كثيرة.

المتأمل في هذا الموضوع الحساس، وبالبصيرة يعرف أن القول بتفرد الخالق سبحانه بالعلية والتأثير، لا يلغي ضرورة وجود بعض الأشياء لتحقيق أشياء أخرى؛ كالوالدين للولد، وهبوب الرياح وإثارة السحاب وتكثف الماء للمطر، وهذه الماديات حدثنا عنها سبحانه وتعالى، في مواضع كثيرة، ومنها قوله في سورة النور: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَار»، وهذه التأثيرات وغيرها تابعة للمشيئة الإلهية، وبحسب الإرادة الربانية، ولولاها لتعذر بروز المعلولات لعالم الظاهر، وعالم الوجود.

غير صحيح القول بانحصار «العلية» في ذات الحق، سبحانه وتعالى، والصحيح هو القول بانحصار «الفاعلية» في ذاته، عز وجل، وهذا يعني عدم تصور إنكار دور الأسباب أو تأثير المسببات، أو إنكار دور الإنسان وقدراته الحادثة، في اكتساب ما يكتسبه، أو إنكار علاقات «التوسط»، وعلاقات «الشرط»، وعلاقات «الاحتياج»، ويعني كذلك عدم صحة زعم أصحاب «الفلسفة المادية»، بأن «الفلسفة الإلهية» قفزت وتقفز على القوانين الطبيعية، أو أنها ألغت وتلغي التفسيرات الحسية للحوادث الكونية، وكلها ادعاءات تدل على ضيق أفق الماديين، واستماتتهم من أجل التشنيع ضد أي دين سماوي.

أختم بأن هذه الصعوبات الذهنية التي يتفنن البعض في إثارتها، بين الفينة والأخرى؛ في مجملها لا منطقية لها، وتضخيمها جهل فاضح، وبلا بينات، وصدق الحق: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب».