بصرف النظر عن الحواديت الغربية التي لمحت، إلى أن نظام صدام حسين البائد، أو صدام نفسه فهم إشارات السفيرة الأمريكية في بغداد، خلال التسعينيات الميلادية، أبريل غلاسبي، أي قبل اتخاذه قرار غزو دولة الكويت عام 1990، حين قالت «إنها لا تملك رأياً في خلاف العراق الحدودي مع الكويت»، والرسالة التي أبلغته بها وزارة الخارجية الأمريكية بحسب ما نقلته مجلة «فورين بوليسي» بأن «واشنطن ليس لديها التزامات دفاعية تجاه دولة الكويت»، بطريقة خطأ، ما دفع النظام البعثي لتخطي الخطوط الحمراء وغزو دولة الكويت، ودخوله الخفجي شرق المملكة، إلا أنه ترادوني بعض التفسيرات والقراءات الخاصة التي تحتمل الخطأ والصواب. تلك رواية لا يُمكن عزلها عن تاريخ المنطقة، بعيداً عن كونها تتضمن الحقيقة المطلقة من عدمها، فهي وفق تفسيرات البعض كانت– بحسب فهم النظام الصدامي- بمثابة ضوء أخضر فهمه صدام حسين من الولايات المتحدة الأمريكية لغزو الكويت، وعن نفسي وهذا رأيي الشخصي بحسب ما قرأت، أبتعد عن تصديق تلك الرواية، وأميل إلى أن الإرادة التوسعية لدى حزب البعث الحاكم في العراق كانت فكرة واردة، تقوم على أطماع بالدرجة الأولى تكفلها المنطقة الغنية بالنفط، ومحاولة خلق زعامة عربية كبرى يُمثلها صدام حسين للعالم العربي، استنادا على قاعدة الشعبية في منطقة الخليج ذات التركيبة الاجتماعية المتجانسة بالدرجة الثانية.

سأسهب في شرح ما يمكن تشريحه في المشهد كاملا، بعدد من النقاط، أولها، الأسباب التي استند عليها نظام صدام حسين آنذاك واعتبرها مبررا منطقيا لأن يضع يده على دولة الكويت، وهي نفطية بشكل واضح، أسندها على إدعاء محاولات الكويت سرقة النفط من أراضيه، وقرنها بمحاولة الكويت- أيضا- إغراق الأسواق العالمية بالنفط ما أدى لهبوط أسعاره إلى مستويات كبرى. أعتقد أن استهداف الموانئ الكويتية كهدف ثان بعد دخول الدولة في ليلة ظلماء، ترجمة واضحة لتلك الأسباب، التي تحولت إلى حالة من الإفلاس، انقاد صدام لترجمتها بإحراق آبار النفط الكويتية بعد تلقين قواته درسا أجبرها على الانسحاب من الأراضي الكويتية بعد اندلاع معركة «عاصفة الصحراء».

وقبل ذلك إذا ما أردنا البحث في الأسباب الصدامية، فسيبرز لنا تساؤل حول كيفية أن تقوم دولة مولته في حربه ضد النظام الإيراني إلى جانب السعودية، بالسطو على قدرته النفطية؟

أتصور أن السياسة الكويتية ليست بالحماقة والغباء الذي يخولها للتكفير بهذه الطريقة، وهذا ينسف الرواية العراقية الهابطة في أساسها. وهنا يمكننا فهم كيف لجأ النظام الصدامي لمحاولة القضاء على أحد الدوافع التي قادته لارتكاب تلك الحماقة- حرق آبار النفط- مسبوقا بنكران ذلك النظام لمواقف دول الخليج إلى صفه في مواجهة النظام الإيراني لأكثر من ثمانية أعوام تكفلت بإمداده بالمال والعتاد. وقد جسد فقدان الشهامة بقصفه الرياض بصواريخ «سكود» التي دفعت ثمنها المملكة، وهذا ليس موضوعي. أتصور أنه بالضرورة فهم وضع صدام حسين تجربة الرئيس السوري حافظ الأسد مثالا ونبراسا لنظامه، وهما الدولتان اللتان تحكمان بذات الحزب «حزب البعث» الذي يكرس في عنوانه الكبير للوحدة العربية «الزائفة»، والتي ستفترض حتما وجود الرمزية لشخص واحد، إما أن يكون صدام حسين أو حافظ الأسد أو حتى جمال عبد الناصر في فترة تاريخية معينة. أعتقد أن حالة وضع اليد التي مارسها حافظ الأسد بحق لبنان دفعت صدام حسين لأن يتخذها نموذجا قابلا للتنفيذ على منطقة الخليج، لكن تفسيراته كانت خطأ شكلا ومضمونا. وثمة بعض الإشارات التي يمكن من خلالها فهم الرغبة البعثية التوسعية، من بينها النظر إلى مؤيدي صدام حسين في غزوه للكويت وافتعال حرب مع دول الخليج بأسرها، كياسر عرفات الذي هرول لبغداد لتقبيل صدام حسين وتبادل الأحضان بعد غزوه الكويت، وتأييد الفصائل الفلسطينية التي تنافح كذبا بالركض وراء تحرير فلسطين، وبضعا من دويلات وكيانات تكاد لا تذكر كانت ولا تزال على هوامش التاريخ، قفزت على شعارات «بعثية» لا تقدم ولا تؤخر، طمعا في أن يتحول صدام حسين إلى شعار حكم، يصبح الجميع تحت أمرته، لكنهم خابوا وخاب مسعاهم هم وصدامهم. أجزم بوجود حالتين لم يتطرق لهما الكثير، الأولى:

رفض صدام حسين الخروج من الكويت قبل اندلاع عاصفة الصحراء ودحره منها رغما عن أنفه، إلا بخروج قوات الاحتلال الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة. والثانية، قصفه تل أبيب بعدد من الصواريخ.

كان هدف الحالتين كسب أكبر قدر من تعاطف الشارع العربي، الذي رفض غزوه دولة جارة. صحيح وبحسب ما أذكر أن حشودا عربية خرجت تأييدا له في بعض العواصم، لكن حالة التأييد تلك كانت موجهة لقصف تل أبيب وليس لاحتلال الكويت، وهنا فرق بين الحالتين، وقد حاول الإعلام العراقي استغلالها وانطلت على بعض البسطاء لا أكثر.

من خلال ما سبق يمكن الرد على السيدة رغد صدام حسين، التي خرجت، مؤخرا، في محاولة لتلميع نظام والدها البائد، مبررة له غزو دولة الكويت وافتعال أزمة مع دول المنطقة، وألقت باللوم في الوقت ذاته على دول الخليج حين قالت «والدي أخطأ.. وهم أخطأوا»، وهذا تزييف للحقائق وخداع للذات قبل الأمة.

التاريخ لن يستمع إلى روايات تسعى لتطهير نظام عاث في الأرض فسادا، وقتل آلاف من بينهم حسين كامل المجيد زوج تلك السيدة في وضح النهار، وقتل وأسر الآلاف من أبناء منطقة الخليج.

إن التاريخ الذي يسعى البعض لحرف بوصلته وتحريفه لن يرحم من كتب تشظي أمة بأسرها، وفتح المجال والأبواب على مصراعيها لعدو حاربه بسلاح غيره أكثر من ثماني أعوام. التاريخ الذي لا يمكن خداعه بوجوه منفوخة أكل عليها الدهر وشرب، يستحيل له أن ينسى وننسى معه، هدير صواريخ «سكود» التي دفعنا ثمنها لحماية نظام والد تلك السيدة في سماء الرياض، والتاريخ كفيل بوضع كل في خانته المناسبة. فالعدو بين، والحليف بين، والخونة بينون.. وهم كثر.