إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بأحد منتجاتها، فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها «حضارة فلسفة» وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها «حضارة علم وتقنية». والواقع أنه سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكم أو نظرنا إليها من ناحية الكيف فإننا سنجد الفقه يحتل الدرجة الأولى دون منازع. إن ما كتب في الفقه من مطولات ومختصرات وشروح، وشروح الشروح، لا يكاد يحصى، وما استنسخ من هذه الكتب بمختلف أنواعها يستحيل استقصاؤه. بل إننا نكاد نجزم أنه إلى عهد قريب، لم يكن يخلو بيت من البيوت المسلمة، من الخليج إلى المحيط، بل وفي أعماق كل من آسيا وإفريقيا، من كتاب في الفقه، وبعبارة أخرى أنه ما من مسلم كان يحسن القراءة بالعربية إلا وكان على اتصال مباشر بكتب الفقه. وإذن فالفقه من هذه الناحية كان «أعدل الأشياء قسمة بين الناس» في المجتمع العربي الإسلامي، ولذلك كان لا بد أن يترك أثره قويا فيه، ليس فقط في السلوك العملي للفرد والجماعة - الشيء الذي يستهدفه أساسا - بل في السلوك العقلي أيضا، أي في طريقة التفكير والإنتاج الفكري هذا من ناحية الانتشار، ناحية الكم، أما من ناحية «الأصالة» أو الكيف فيجب القول دون تردد أن الفقه الإسلامي إنتاج عربي إسلامي محض إنه من هذه الناحية يشكل، إلى جانب علوم اللغة، العطاء الخاص بالثقافة العربية الإسلامية. وعبثا حاول بعض المستشرقين إيجاد صلة مباشرة أو غير مباشرة بين الحقوق الرومانية والفقه الإسلامي، والذين أصروا منهم على البحث عن مثل هذه الرابطة لم يستطيعوا الذهاب إلى أبعد من القول: وإن الحقوق الرومانية تركت عن طريق تطبيقها في الشرق تعاملا حقوقيا أصبح من أعراف هذه البلاد وتقاليدها، وإن هذا التعامل وهذه التقاليد دخلت في الحقوق الإسلامية بصورة لم يشعر بها، وواضح أن هذه الدعوى الخجولة أوهى من أن تكون فرضية للعمل، بل إنها أكثر تواضعا من الآراء والنظريات التي تؤكد أن الحقوق الرومانية نفسها إنما قامت على أساس الحقوق المصرية والكلدانية القديمة، على أن المستشرق الإيطالي سنتيلانا، الذي كان أول من افترض تأثير الحقوق الرومانية في الفقه الإسلامي والذي بقي يعتبر مرجعا في هذا الموضوع، قد اضطر إلى التراجع أمام فقدان ما يمكن به تعزيز هذه الفرضية التي كانت في الحقيقة مجرد افتراض متسرع. وهكذا لم يتردد في القول في مقالة متأخرة له عبثا نحاول أن نجد أصولا واحدة تلتقي فيها الشريعتان الشرقية والغربية (الإسلامية والرومانية) كما استقر الرأي على ذلك. إن الشريعة الإسلامية ذات الحدود المرسومة والمبادئ، الثابتة لا يمكن إرجاعها أو نسبتها إلى شرائعنا وقوانيننا لأنها شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلا، ونحن عندما نبرز أهمية الفقه في الثقافة العربية الإسلامية، كما وكيفا، فليس ذلك من أجل الانخراط في عملية التنويه الذاتي السائدة في الخطاب العربي المعاصر ردا على تحديات الغرب، بل إنما نريد من وراء ذلك تأكيد الحقيقة التالية، وهي أن الفقه الإسلامي كان ولا يزال أقرب منتجات العقل العربي إلى التعبير عن خصوصيته وتاريخ تطور الفقه يزكي هذه الحقيقة تمام التزكية:

فمن جهة كان الفقه هو الميدان الذي تلاقت فيه مختلف الاختصاصات قبل عصر التدوين، وخلاله وبعده وكما لاحظ المستشرق الكبير هملتن جيب، فلقد استغرق العمل الفقهي خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة الطاقات الفكرية لدى الأمة الإسلامية إلى حد لا نظير له، إذ لم يكن المسهمون في هذا الميدان هم عملاء الكلام والمحدثون والإداريون فحسب، بل إن علماء اللغة والمؤرخين والأدباء أسهموا بأنصباء في هذه المجموعة من المؤلفات التشريعية وفي مناقشة القضايا التشريعية، وقلما تغلغل الشرع في حياة أمة وفي فكرها هذا التغلغل العميق مثلما فعل في الأدوار الأولى من المدنية الإسلامية.

هناك ظاهرة أخرى تؤكد قوة الفقه واستقلاليته في الثقافة العربية الإسلامية لا بد من تسجيلها هنا. ذلك أن الموروث القديم الذي واجه الإسلام على صعيد العقيدة لم يكن له أي أثر على صعيد الشريعة أن التاريخ لم يسجل أي نزاع أو صراع بين تشريع قديم وبين التشريع الإسلامي، كما لم يسجل أي تأثير لـ«الحقوق القديمة» في الحقوق الإسلامية كما سبقت الاشارة إلى ذلك قبل. لقد حل التشريع الإسلامي الذي ظل إسلامي المنشأ وإسلامي التطور محل التشريعات السابقة في جميع البلدان التي فتحها الإسلام، دون أن يسجل التاريخ - على عكس ما كان عليه الأمر في العقيدة - أي صراع أو احتكاك بين «القديم» السابق على الإسلام والجديد الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالأحوال الشخصية أو بغيرها هنا في مجال الفقه «جب الإسلام ما قبله» تماما. نعم لقد كانت هناك أعراف عديدة، بعضها امتصه الإسلام وتبناه وبعضها الآخر سكت عنه، ولكن ما يهمنا، في موضوعنا، ليس الجانب التطبيقي للفقه في الإسلام، وإنما يهمنا بالدرجة الأولى بناؤه النظري، وبعبارة أخرى التفكير الفقهي. ففي هذا المجال، مجال الآراء والنظريات، لم يكن للثقافات والشرائع السابقة على الإسلام أي أثر على التفكير الفقهي الإسلامي. والحق أنه يجب التمييز بين الفقه العملي والفقه النظري: ففي زمن النبي والصحابة، وحتى أواخر العهد الأموي، كان الفقه واقعيا لا نظريا، فإنما كان الناس يبحثون عن حكم الحوادث ويسألون عنها بعد وقوعها أو يتقاضون فيها فتعالج بالحكم الذي تقتضيه الشريعة، ولم تكن الحوادث تفترض افتراضا». أما بعد ذلك وابتداء من عصر التدوين أصبح الفقه يثمر من النظر والافتراض أكثر مما يثمر من الوقائع والفعل». لقد أصبح الفقه أشبه ما يكون برياضة ذهنية نفترض فيها الحوادث افتراضا ونبحث لها عن حلول.. وفي عملية الافتراض تلك لم يكن الفقهاء يتقيدون بـ«الممكن الواقعي»، بل لقد ذهبوا مع «الممكنات الذهنية إلى أبعد مدى، مما جعل الفقه في الثقافة الإسلامية يقوم بذات الدور تقريبا الذي قامت به الرياضيات في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة.