عندما تبحر في تاريخ السياسة العالمي، تجد القصص والسيناريوهات تتشابه بشكل يثير الدهشة، مع اختلاف الأشخاص والمكان والدولة. أبحرنا خلال سنوات في التاريخ السياسي لأربع مناطق حول العالم، إما أثناء الدراسات العليا أو من باب الاطلاع، وهي تباعا:

أولا المنطقة العربية والخليج، وثانياً التاريخ السياسي لبريطانيا لأنها حاكمة العالم القديم، والأساتذة في ألاعيب السياسة، وثالثاً التاريخ السياسي لأمريكا لأنها قوة العالم الكبرى الحالية، ورابعاً التاريخ السياسي لليابان خاصة و شرق آسيا عموماً.

ونستطيع القول إن التشابه بين الجنس البشري والصراعات السياسية والمؤامرات، وصل لدرجة أن بعض القصص تتشابه، فلو ذكرت قصة في اليابان فإنك ستجد قصة مشابهة لها في بريطانيا. سأتكلم عن ثلاث من أهم الشخصيات السياسية في تاريخ اليابان، وهم من يُسمون المساهمين الثلاثة في توحيدها ، فقد كانت اليابان عبارة عن مقاطعات متناثرة يحارب بعضها بعضا، إلى أن جاء شخص غريب الأطوار، كانت عائلته تحكم إقليما صغيرا، وفكر بما لم يفكر به أحد، وهو توحيد اليابان قبل أكثرمن 500 سنة، هذا القائد هو أودا نوبوناغا، الرجل الغريب في تصرفاته . كان شرسا وجريئا، والأهم من كل ذلك أنه كان مبدعا ومنجما من الأفكار الجديدة الخلاقة في الحروب. عمليا هو أول من أنشأ ما يشبه جهاز الاستخبارات العسكرية،كان يقدر المعلومات كثيراً، وطرقه المستحدثة غيرت طريقة القتال والحروب في تاريخ اليابان، وتمكن عدة مرات من هزيمة جيوش أكبر من جيشه بعشرة أضعاف، كسر قوانين كثيرة في اليابان، فكان قبله لا يلتحق بالجيش إلا فئة المحاربين، بينما هو أدخل الناس العاديين والمزارعين، الذين كانوا يعتبرون طبقة أقل في المقاتلين. لكن في المقابل كان سفاحا يحب الدماء، يقتل جميع من يعاديه حتى الأطفال والنساء، ما أثار حفيظة قادته لاحقا، وتسبب في هلاكه، كان معه جنرالان في جيشه، هما من أتم فعلياً توحيد اليابان «تويوتومي هيدهيوشي»، والآخر «توكوغاوا إيئهياسو». هؤلاء الثلاثة هم من وحد ما يسمى اليابان حاليا، والفرق شاسع بينهم، لذلك هناك مقولة يابانية تشرح الفرق ببساطة ودقة بين الثلاثة، فيقال «إن طيرا لا يستطيع أن يغني، فأما نوبوناغا فقال اقتلوه، أما هيدهيوشي فقال علموه واجعلوه يغني، أما إيئهياسو فقال انتظروا عليه فسوف يغني».

هيدهيوشي يعتبر من قبل الكثيرين أعظم قادة اليابان ما بين الثلاثة، ورغم أنه من عائلة متواضعة جدا، إلا أنه شق طريقه ليصل القمة، وأصبح أهم جنرالات نوبوناغا. كان ذكيا سياسيا وذا رؤية استراتيجية، وسريعا بانتهاز الفرص، والأهم أنه لم يحب الدماء مثل نابوناغا،وإذا كان يمكنه الفوز دون إراقة دماء فإنه يفعل. أحب زوجته «نينيه» جدا، وكانت أعظم مستشاريه، و تعتبر من أحكم وأعقل النساء في تاريخ اليابان. ورغم أنه وحد اليابان وأنهى الحروب الأهلية، إلا أنه كان يعاني من عقدة النقص في أصله، لذلك اشترى أصلا، وقام ببعض المغامرات الخاطئة في فترة لاحقة من حياته، مثل غزو الصين و كوريا، رغم تحذير زوجته، والتي يقال أنها المرة الوحيدة التي لم يأخذ بمشورتها، ولكن يقال إنه أراد إلهاء لوردات الحرب اليابانيين، فبعد أكثر من عدة عقود من الحروب، والتي أصبحت جزءا من حياتهم، فإنه عندما وحد اليابان وأنهى الحرب الأهلية، خشي أن ترتد عليه هذه الآلة الحربية، لذلك صدر المشكلة للخارج.

الرجل الثالث فهو إيئهياسو، أحد جنرالات نابوناغا، كان ذكيا و صبورا، ويغير تحالفاته حسب الوضع والمصلحة، وحافظ على استقلاليته عمليا كحليف، رغم أنه كان يظهر للقادة كأنه تابع، وحتى أمام هيدهيوشي كان مقربا، وأعطى ابنه رهينة لهيدهيوشي حتى يطمئن له وأنه لن يغدر به، وكان قبلها قد قتل ابنه وزوجته لكي يرضي نوبوناغا، وفي الأخير استقر له الأمر في اليابان، بسب قراءته للظروف وصبره، وحكمت أسرته اليابان لمئات السنين.

وكما كان هؤلاء قادة عظماء، هناك قادة فاشلون في عصرهم نفسه. كان أحد أهم قادة اليابان «تاكيدا شينغن»، وإن كان من أحد متوقع له أن يوقف نوبوناغا، فهو بلا شك تاكيدا شينغن، الذي هزم القائد ايئهياسو هزيمة نكراء، ولكنه مات، شر ميتة.

أما المثال الآخر فهو ابن نوبوناغا نفسه «نوبوكاتسو» فكان متحمساً وأراد أن يثبت لأبيه قدرته وتميزه عن البقية، فقاد حملة عسكرية لإقليم إيغا، ولقي هزيمة نكراء، طبعا كانت الحملة «هياط» فجاءت النتيجة مزرية، غضب أبوه نوبوناغا جداً، ونهر ابنه وأرسل حملة أخرى، ارتكبت مجزرة مريعة في سكان إيغا. لكن القصتان لهذين الشابين، تثبتان أن ليس كل المستشارين حكماء، لذلك فشل هذان الشابان فشلا مريعا. بالمقابل كان لدى القادة العظماء نوبوناغا وهيدهيوشي وإيئهياسو،العديد من المستشارين، ولكن وقت الجد يعرفون من يعتمدون ومن يرسلون، وعندما يريدون قيادة حملة أو استشارة مهمة، فان نوبوناغا يرسل هيدهيوشي مثلا، وهيدهيوشي يرسل أو يستشير إيئهياسو، وكان نوبوناغا يسمع جميع الآراء، رغم أنه سيقرر في الأخير من الأكفأ للمهمة. والولاء ليس كل شىء فقد يكون ضاراً، فحتى بعض مستشاري هيدهيوشي، بسبب ولائهم كانوا يخفون عنه النكسات في حملة الجيش للصين وكوريا، وكان يعتقد شخصياً أنه ينتصر. لذلك أفضل تشكيلة للمستشارين هي المتنوعة، التي فيها الخبراء والمختلفين والموالين، ودائما تقريب المجتهدين، فهيدهيوشي بذل كل جهده وشجاعته وانتصاراته، لكي يتقرب من نوبوناغا، لأنه عرف أن نوبوناغا يقدر المواهب حتى من خارج العوائل، التي تعودت علي التعامل مع عائلة أودا نوبوناغا. لأن الذين من خارج العوائل المقربة سيبذلون مجهودا أكبر للوصول.

نهاية الثلاثة كانت مثيرة، نوبوناغا مات بعد أن قتل نفسه بشق بطنه بالسيف، أو ما يسمى طريقة «سيبوكو»، بعد أن خانه أحد أتباعه من البوذيين، وهذا يرجع إلى المجزرة الرهيبة التي ارتكبها سابقا بحق الرهبان البوذيين وحرق معابدهم. وعندما حوصر نوبوناغا وعرف أنه لن ينجو، قتل نفسه حتى لا يعطيهم شرف قتله.أما هيدهيوشي فمات طبيعيا بعد تكاثر الأمراض عليه، وكان بلا وريث، لذلك أعطى الحكم لابن أخيه، لكن في آخر أيامه جاءه ولد، فتخلص من ابن أخيه، وطلب القسم من أقوى خمسة حكام في اليابان للعناية بولده الصغير، حتى يكبرويمسك الحكم. الولد اغتيل بعد وفاة أبيه ، وآل الحكم باليابان لإيئهياسو القائد الصبور، الذي تحمل قتل ولده، و أرسل ولده الآخر رهينة، وهو نفسه كان رهينة من قبل، وحكمت أسرته اليابان لمئات السنين من بعده.نرجع ونقول إن الأحداث التاريخية لها ما يشابهها حول العالم، حتى عندما تقرأ في تاريخ الإنجليز مثلاً أوالأوربيين، تجد كثيرا من الأحداث تتكرر. لذلك وضع ابن خلدون أسس نظرياته من دورات التاريخ.