هل أن العرب في حاجة إلى التقارب مع تركيا؟ الجواب: نعم، تحسبا لخيارات الإدارة الأمريكية الجديدة، وتمهيدا لتفاهمات مستقبلية. هل أن تركيا تغيّرت وأجرت مراجعة لسياساتها خلال العقد الماضي؟ مسألة قيد الاختبار. هل أن خطاب رجب طيب إردوغان وسلوكه أصبحا ملائمَين؟ ليس بعد. هل هو في صدد التخلّي عن الأحلام العثمانية (التوسعية) والروابط «الإخوانية»؟ مجرّد تراجع شكلي وتكتيكي. هل تسحب تركيا قواتها من الدول العربية، تلبية لمطالبة الجامعة العربية؟ لا، وتختلف ظروف التدخّل وأسبابه في كلٍّ من سورية والعراق وليبيا. هل تواصل تركيا محاولاتها لتحصيل موقع «مستقل» بين «الناتو» والمعسكر الروسي؟ هذا مسار جدّي وشاق استغلّه إردوغان شعبويا وإسلامويا ولم يُعترف لتركيا بعد بدور كهذا.

في كل الأحوال، يجدر التعامل مع العروض التركية كفرصة يُفترض إنجاحها. هذا ما تفعله مصر من دون تعجّل، ليكون التقارب مصلحة للجميع في المنطقة. أما إذا فشلت فتبقى كل طرف خياراته في انتظار... ما بعد إردوغان. النموذج المصري هنا هو الأكثر دلالة، لأن الطرفين بلغا منتصف العام الماضي حدّ الصدام العسكري المباشر في ليبيا، عند خط سرت - الجفرة «الأحمر». في تلك اللحظة كان لافتا اصطفاف «الإخوان المسلمين» وسواهم من الإسلاميين وخروجهم، خصوصا في تونس وليبيا، للدفع إلى السيطرة التركية على كامل ليبيا وحتى الحدود المصرية. قبل ذلك، كان إردوغان وماكينته العسكرية والإعلامية يركّزان على:

1) إرث تاريخي عثماني في ليبيا يسوّغ استعادة النفوذ.

2) «الوطن الأزرق» الذي يحيل المتوسّط بحيرة تركية. وإذ غدت التجربة الليبية دليلاً إلى «توسّعية» إردوغان، فلا بدّ من التذكير بأنه تصرّف بضوء أخضر أمريكي في مواجهة مرتزقة روسيا. لكن خلط الأوراق جارٍ الآن بفعل «عملية سياسية» هندسها الأمريكيون.

بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في 2002 كان في الإمكان تمييز مَن هم مؤهّلون ليكونوا رجال دولة ومَن هم «إسلاميون» أولا وأخيرا، وهؤلاء الأخيرون حرص إردوغان على أن يغزوا إدارة الدولة، وزاد تغلغلهم فيها بعد المحاولة الانقلابية في 2016 وإقصاء كل من يُشتبه بانتمائه إلى «جماعة غولن». لكن الأساس في النجاحات الأولى للحزب الحاكم كان عمله في مؤسسات حكومية منتظمة، وبمقدار ما راح إردوغان يصفّي «الدولة العميقة» التي وصفها بـ«العلمانية»، بالأحرى المدنية، بمقدار ما بدأت الإنجازات الاقتصادية تتراجع وتزيد الصعوبات أمام الحزب للفوز في الانتخابات، ولم يجد إردوغان وسيلة أخرى للتعويض إلا بالذهاب إلى إنجازات عسكرية ليس واضحاً ما إذا كانت ستدوم، أو تستمرّ بأكلافها من دون رفد الاقتصاد.

غير أن السعي إلى فتوحات عربية تحت راية «الأمجاد العثمانية» كان ينمّ عن غطرسة «استعمارية» تتمثّل بتجاهلٍ لمتغيّرات مئة عام في المنطقة، وبجهلٍ لنظرة المجتمعات العربية إلى الموروث التاريخي. لم تكد هذه المجتمعات تتجاوز الماضي العثماني وحقبة التباعد الأتاتوركي لتتعاطى مع تركيا حديثة برؤى وطموحات عصرية، حتى فاجأها إردوغان بثوبه «الإخواني» وتطلعه إلى إحياء «الخلافة» فيما كان العالم يرصّ صفوفه لمحاربة تنظيم «داعش» وخلافته المزعومة، بل فيما كان يزداد اقتناعا بأن كل جماعات الإرهاب تأثّرت بشكل أو بآخر بالمشروع «الإخواني». هنا كانت السقطة الإردوغانية الكبرى، حين سخّر تركيا الدولة في خدمة «جماعة» ارتضت أن يكون لها «حزب» أو «أحزاب» فقط لتمكينها وتمرير أهدافها.

كان بإمكان إردوغان وحزبه أن يتعاطفا كما يشاءان مع «الجماعة»، لأسباب عقائدية أو إنسانية أو حقوقية، أما أن يتبنّياها بأخطائها وعداواتها فهذا شأن آخر، وأن يخرّبا العلاقة بين دولة ودولة مع مصر من أجلها ففي ذلك تهوّر وغباء. بل إن الدعم التركي (والقطري) أعفى «الإخوان» من إجراء أي مراجعة لنهجهم كي يكونوا مفيدين لمجتمعاتهم ومتوائمين معها، في مصر وغيرها، لا أن يكونوا على الدوام مصدر انقسام وتوتير.

حتى في التعامل مع الأزمة السورية، وقبل سقوط الحكم «الإخواني» في مصر، كانت تركيا تعطي أولوية لـ«الجماعة» غير مبالية بطبيعة التديّن الإسلامي الوطني في سورية، لكن دفعها بالمعتدلين إلى «التأخّوُن» والتطرف لم ينجح إلا في تخيير الفصائل العسكرية بين التفكّك والولاء. وكما في ليبيا كذلك في سورية، لم تكترث «تركيا الديمقراطية» لحقيقة أن الشعب

لا يقصي «الإخوان» لكنه يريد دولة مدنية، أي أنه لا يعتبرهم خياره. ففي ليبيا صوّت مرّتين ولم يمنح «الإخوان» وأشباههم سوى حجمهم الواقعي، وبالنسبة إلى سورية فإن الشعب يطمح لأن يشارك يوما في انتخابات حرّة ونزيهة وقانونية وليس بين أطياف المعارضة من يريد إقصاء أحد لكن «الإسلام السياسي» ليس مشروعها، مثلما أن نظام العائلة/‏ الطائفة الحالي مرفوض لديها.

لو لم يركّز التدخّل التركي في سورية على «الإخوان» لكان أفسح في المجال لمواكبة ومشاركة عربيتين تؤسسان لتفاهم إقليمي أكبر في المستقبل. فخلافا لروسيا وإيران، وكذاك لإسرائيل، كان بإمكان تركيا أن تتمايز، وأن تكون تدخلاتها فرصة لتفاهم تاريخي إقليمي واسع، لكن تكشّف أولا أنها مدفوعة باستعلائية لا تختلف عن الأحقاد الفارسية على العرب ولا عن الغطرسة التفوّقية الإسرائيلية ازاءهم. وتبيّن ثانيا أن أهم أهدافها سحق الشعب الكردي الذي يشكل عدم التصالح والتعايش معه أحد أكبر إخفاقات الدولة التركية طوال قرن ونيف.

أوائل القرن غدا «الإسلام التركي» نموذجا يجتذب الاهتمام العالمي، بنجاحاته الاقتصادية وأسسه الديمقراطية المدنية، قبل أن يصبح أحد ضحايا «الربيع العربي» بنسخه كافة. رأى إردوغان، ومثله علي خامنئي وبنيامين نتانياهو، أن ثمة فراغا عربيا هائلا ينتظر مَن يملأه، وكانت تركيا الأقل استعدادا لهذه المهمّة بين الدول الثلاث لكن بلورة خياراتها تزامنت مع تغيير نموذجها «الإسلامي»، وبالتالي بدء التوجس من أهدافها. كان مبررا لتركيا أن ترعى ضرورات أمنها، لكن الأفضل أن تستخدم «نموذجها» لا عسكرها وسيلة لتحصيل النفوذ بدلا من استغلال محنة الشعب السوري لتصدير المرتزقة، أو «الانكشارية» بالمصطلح العثماني. ليس أدل إلى مراكمة الأخطاء من بحث إردوغان حاليا عن «سلام» كان أفسده مع العرب.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»