قال: «تقسو قليلا»!

قلت: إنها قسوة المحب، إنها رغبة جامحة، وحلم مشروع في أن نرى وجه الوطن نظيفا من الدمامل!

إنها قسوة الذين لا يقبلون لسفينة جميلة أن تتحطم على صخور العناد وصخرة الفردية، ورفض الاستماع للآخرين!

قال: «لما يحدث ذلك»؟

قلت: ربما أن ذبابا يتجمع حول من تحب، أو ثعالب تبحث عن فرائسها، تصور الخير شرا، وتحاول أن تمنع كل مخلص من أن يساهم في دفة السفينة الجميلة!

قال: «وماذا عن الركاب»؟

قلت: بشر مسالمون، أثبتت تجربة الرياح العاتية، والجراد الأصفر القادم من الشمال إلى جذورهم تضرب بعيدا في الأرض، وإنهم كالأشجار يموتون واقفين، وإنهم لا يريدون بديلا للربابنة الذين يمسكون بالدفة، لكنهم يتحسرون على السفينة الجميلة، ويخافون عليها وترتفع أصواتهم من أجلها.

أخاف عليهم من الإحباط، ومن الانفلات، ومن الشعور بأنه لا أمل يرتجى في نهاية النفق!

قال: «وماذا بعد»؟

قلت: هذا قدرنا، وهذا بيتنا، نحاول، وسنظل نحاول في أن يكون نظيفا، وأن تكون شبابيكه مفتوحة، وقلوب أبنائه مليئة بالدفء والمحبة، المهم ألا يتسلل الإحباط إلى قلوبنا، وأن نرفع أشرعة التفاؤل من أجل أطفال يكبرون، وآخرين يتكونون في أرحام أمهاتهم.. من أجل وطن جميل صغير.

عندما تتلبد السماء بالغيوم السوداء المكفهرة، فلا عاصم لكم سوى صفاء قلوبكم. عندما تمر الساعات حزينة وبليدة، فلا ملجأ لكم سوى أن تختاروا التوقيت المحلي لقلوب أحبتكم.

ليس هناك عالم تعيس، هناك بشر اختاروا التعاسة. ليس هناك وقت جميل ووقت قبيح. الوقت قمة الحياد، لا دخل له بكل ذلك، نحن نملؤه بأحداث سعيدة فيصبح سعيداً، أو نملؤه بأحداث قبيحة فيصبح قبيحاً. ليست هناك قلوب فارغة. الفراغ كما تؤكد علوم الطبيعة والفيزياء، وكما يؤكد علم المحبة، هو خرافة ووهم. كل فراغ لا بد أن يمتليء. قد يمتليء الفراغ بمياه نقية تنبع من قمة جبل نظيف، وقد يمتليء بمياه البالوعات الملوثة. قد تمتليء القلوب بنهر دافق من المحبة، أو تمتليء بسواد الكراهية. ونحن الذين نختار مع سبق الإصرار والترصد أن نكون محبين أو كارهين..! فرحين أو متبرمين.. وليس في المسألة نظرية مؤامرة..!

قلنا وما زلنا نقول: «لا يحك جلدك غير ظفرك». وقلنا وما زلنا نقول: إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإن حكاية الفانوس أو «شبيك لبيك عبدك بين أيديك»، هي حكايات تحكيها العجائز للأطفال ليناموا. لن يأتي أحد من اللامكان أو اللازمان ليعيد لنا اعتبارنا، ويعيد للريادة توهجها، وللعطاء الجميل رونقه.

قلنا وما زلنا نقول: إن ترك الأمور كما تشتهي لها سفن الفوضى والإهمال، وأن حكاية «أن كل تأخيره وفيها خيرة»، وأن حكاية «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»، هي حكايات وأساطير انتهت صلاحيتها عند الأمم المتحضرة، التي تعرف معنى الوقت ومعنى الإنجاز ومعنى الإتقان ومعنى المحبة..!

أوه... لقد تذكرت الإتقان... هذه الكلمة الغائبة أو المغيبة من قاموسنا، تلك المقولة التي نسيناها أو تناسيناها: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»..! فلماذا لم نعد نتقن العمل، ولم نعد نتقن الغناء، ولم نعد نتقن ترتيب الزهور، ولم نعد نتقن المحبة..!

أيها الناس.. انظروا في مرآة أنفسكم، وتذكروا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.