منذ مئات السنين وأجدادنا يتوارثون بلادهم الزراعية من طرف إلى طرف، لا يتوارثون الطين فحسب، بل يتوارثون حتى الحكايا والمواقف والأزمات التي تخلفها موارد السيول وسنوات الجفاف.

الأخوة الذين يتغيرون فجأة عند أول منعطف للماء، تحمر وجوههم، ويغضبون عندما يتغير العُرف السائد لوجه الماء، يعودون إلى سفاهتهم وجهلهم وحماقتهم خوفا من أن يتجاوزهم الماء، وتتمدد بلادهم باليأس لعام آخر.

كل شيء تغير، القرية تمدنت، المنازل نفضت قشها وأعوادها وباتت بطوب وعوازل، الناس مهندمون وأنيقون لدرجة تشعرك أن العالم كله ذاهب في وقت واحد لحفل ما، تكدست يومياتنا بالصخب والضجيج، ضاعت الأوقات ونحن نتحين الفرص لسرقة وقت نتنهد فيه بعمق.

كبرت أعمارنا بسرعة وكأنها مزحة، نلتفت للخلف ونسأل أنفسنا، كم المسافة التي قطعناها؟ نتلعثم بالجواب، وتوخزنا ذاكرتنا بالأوقات التافهة التي أشغلنا أرواحنا بها، نصمت بوجوه شاحبة ونحن محشوون بالتعب المزمن، نتذكر أولئك الرجال الذين عاشوا في هذا المكان وهم بأقل كتب وأكثر حكمة ومنطقا ومفاهيم، أتذكر أجدادي الذين عاشوا بلا قلق للمستقبل، بإيمان ضخم وغير مهزوز.

وصلنا نحن الشباب لهذا المكان الآن، مطوقين بأسلاك شائكة من الزمن، والحداثة والتسارع المرعب، وصلنا بكتب كثيرة، وبمنطق شبه معدوم، أو بمنطق لا يصلح لهذا العصر المفتوح على كل احتمالات الخيبة، وصلنا مرضى بقلق العيش لعشرين سنة قادمة، بقلق الأولاد الذين نحملهم من صباح إلى صباح ونحن نحاول مساعدتهم للجهة التي يمكن إيجاد أحلامهم فيها، نسينا اللحظة الراهنة، الوقت الذي نجره بأيامنا بلا انتباه ولا معنى.

علينا أن نعود إلى الأرض، إلى ما كان عليه أجدادنا ولو على سبيل العلاج أو الهروب، العلاج من شبح الزمن الذي يلاحقنا بأنيابه، والهروب من المدينة بأجراسها المعلقة في أذهاننا كالخراف.

إننا بحاجة إلى كسر رخام الانطباع التي ولدته العشر سنوات الماضية، السنوات التي جرفتنا بعيدين عن ذواتنا وأنفسنا، للدخول مرة أخرى إلى عمق الروح، إلى كينونة النفس الداخلية، الالتقاء بالذات، ومصافحة النفس، وإعادة ترميم المعاني للأشياء التي دُفنت أو تغيرت.

أشعر أنني بحاجة إلى النظر للسماء بعمق غريب، والركض حافيا لمسافات طويلة على الأحجار والرمل والحصى والنبات، العمل بمسحاة تحت ظهيرة الحادية عشرة دون بزة أستر بها صدري وكتفيي من الحرارة واللهب، لشرب الماء البارد تحت ظل شجرة في عز الصيف وأنا أتتبع مرور الماء من فمي إلى أمعائي، والماء البارد يفصل دمي الثائر، وينتزعني من جفاف الجسد إلى ارتواء الروح.