انشقاق «الحركة الإسلامية الجنوبية» في إسرائيل عن «الحركة الوطنية» (القومية واليسارية) التي تمثل فلسطينيي الداخل، وفوزها بكتلة صغيرة مرجحة لأي ائتلاف حكومي في إسرائيل، حدث استثنائي. لماذا؟

أولا، لأنه يمثل خطوة أولى في مسار «تطبيع» داخلي استطاع أن يوصل أربعة منتخبين من «القائمة العربية الموحدة» إلى عضوية الكنيست، من دون التحالف مع الأحزاب الثلاثة الأخرى في «القائمة العربية المشتركة»، ويميل إلى دعم ائتلاف بنيامين نتانياهو، إذا قدر له أن ينشأ، حتى لو من خارج الحكومة.

ثانيا، لأن الانشقاق جاء من إسلاميين من خط جماعة «الإخوان المسلمين»، ويبدي زعيمهم الشيخ/‏ طبيب الأسنان منصور عباس براغماتية غير مسبوقة قادته إلى موقع «تصالحي» وسطي بين المعسكرين السائدين، لكن مصلحته في بقاء نتنياهو وليست في إطاحته.

ثالثا، لأنه تجنب أي تسييس لحملته الانتخابية ليركز تحديدا على مطالب خدماتية، وهذا جديد في نهج فلسطينيي الداخل الذين يعارضون السلطات انطلاقا من رفضهم التمييز ضدهم كأقلية وتضامنهم مع قضية الشعب الفلسطيني.

رابعا، لأنه زاد الوضع السياسي الإسرائيلي المربك إرباكا، ليس فقط بكونه يملك مفتاح بلورة غالبية برلمانية، بل خصوصا لأنه أعاد وضع ساسة إسرائيل أمام فرصة/‏ ضرورة التعاون مع المنتخبين من فلسطينيي الداخل. وكان هذا الاحتمال طرح أيضا بعد الانتخابات الثالثة ( مارس 2020) حين حصلت «القائمة المشتركة» على 15 مقعدا في الكنيست، وفرضت نفسها ممرا إلزاميا لأي حكومة، لكن منطلقات «القائمة» سياسية وليست فقط خدماتية.

لم يأت الانشقاق المتدرج داخل «الحركة الإسلامية» في إسرائيل، بدءا مما بعد اتفاق أوسلو عام 1993 وصولا إلى 2015، لاعتبارات جغرافية بحتة، جنوبية وشمالية (أبرز وجوهها الشيخ رائد صلاح، السجين حاليا)، بل أيضا لاختلاف الخيارات السياسية. فـ«الجناح الشمالي» يشارك في الانتخابات المحلية ويقاطع انتخابات الكنيست، ويلتزم القضية الفلسطينية بنهج منسجم مع حركة «حماس»، مقارعا السلطات التي انتهت إلى تصنيفه «محظورا» (تشرين الثاني/‏ نوفمبر 2015). أما «الجناح الجنوبي» (أبرز وجوهه حاليا منصور عباس، بعد المؤسس عبدالله نمر درويش، فضلا عن رئيسه الحالي حماد أبو دعابس)، فيميل إلى الاندماج والتعايش مع الواقع الإسرائيلي من دون الاحتكاك بالسلطات، لكنه أيّد «عملية السلام» وارتبط بعلاقة جيدة مع السلطة الفلسطينية، وليس واضحا ما إذا كانت مستمرة.

الجديد الذي ضخه منصور عباس هو مضيه في البراغماتية الى حد الاندماج/‏ «التأسرل»، محيدا الخصوصية القومية والصراع مع قانون «يهودية الدولة» وتبعاته العنصرية المشرعنة، ليهتم خصوصا بتحسين الأوضاع المعيشية للوسط العربي (خمس السكان) الذي يعاني من ضعف مزمن لميزانيات التنمية ومن قوانين تمنع البناء، وبات في الأعوام الأخيرة يواجه تصاعدا بمستويات الجريمة. حاول النواب العرب الحصول على مكاسب لناخبيهم ومناطقهم لكن التنافس على الميزانيات داخل الكنيست كان دائما لمصلحة اليهود ومحكوما باعتبارات يحددها اليمين المتشدد أو المتدينون المتطرّفون. فالتمييز ضد السكان العرب ومناطقهم كان عرفا تقليديا قبل أن يصبح مقوننا، كذلك التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية، ما جعل تمثيلهم في الكنيست نمطا شكليا لا يفيد سوى في ادعاء إسرائيل بأنها «دولة ديمقراطية».

من هنا أن المقاربة التي تبنتها «الحركة الإسلامية الجنوبية» لاختراق جدار الإجحاف المبرمج هذا، تبدو رهانا على حصول تغيير مقابل في العقلية والسلوك بعدما تجذر التطرّف العنصري في المجتمع الإسرائيلي، ناخبين ومنتخبين، أي أنه أقرب إلى رهانٍ على المستحيل. فالإسرائيليون لا يكترثون لـ«التطبيع» الداخلي الذي يعرضه منصور عباس، سواء بترحيبه باتفاقات التطبيع العربية الأخيرة خلافا للسلطة الفلسطينية أو حتى للإسلاميين والقوميين العرب عموما، أو بعدم تظهيره مواقف مبدئية من مسائل رئيسية كالقدس والأماكن المقدسة والسلام العادل للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.

لا شك أن «منطق مصالح شعبنا أولا» يستند إلى خلفيات واقعية، فمناطق الوسط العربي تعيش منذ سبعة عقود حالا من الإحباط والترقب. واكبت الانتفاضات الفلسطينية وأملت بسلام فلسطيني - إسرائيلي قد يساهم في معالجة صعوباتها الاقتصادية والاجتماعية، لكنها رأت كل الرهانات تمر أمامها وتخفق. ولعل اليأس من «عملية السلام» ومن سياسات اليمين الإسرائيلي، معطوفا على الخوف من «صفقة القرن» وتعمّق الانقسام الفلسطيني وتردي الوضع العربي العام، بدد الآمال في شيوع مناخ عدالة يمكن أن يعالج معاناتهم ويكافئ صبرهم. ويكاد يأس فلسطينيي 48، المعرضين لأسوأ أنواع الضغوط وانسداد الآفاق، يعبر أيضا عن حال الفلسطينيين الآخرين وعرب البلدان المأزومة.

كان للانشقاق أثمان تمثلت أولا بتراجع التمثيل العربي في الكنيست من 15 إلى 10 أعضاء، وثانيا بانقسام جديد من نوعه بين فلسطينيي 48 لا سند سياسي له، وثالثا بالتأسيس لـ«اختراق» في الحياة العامة الإسرائيلية قد يتبدى أنه وهم خالص. فحتى نتانياهو سيعتبر هذا الانقسام مكسبا مجانيا، ولن يستخدم التقارب مع منصور عباس كما لو أنه في سياق التطبيع مع العرب، ولا بتلبية هذا الأخير في ما يطمح إليه من خدمات. أما السياسيون الآخرون فلا يعتبرون أنفسهم معنيين بـ«ظاهرة عباس» ولا بكونها تمتحن «ديمقراطيتهم»، إذ أنهم بلغوا حدا من الوقاحة يسوغ لهم الجهر بعنصريتهم، ويرفضون أي ائتلاف حكومي يعول على «كتلة عباس»، أكان برئاسة نتانياهو أو يائير لبيد أو سواهما، برغم الحاجة الماسة إليها لتفادي الذهاب إلى انتخابات خامسة.

لم يسبق أن انضم حزب عربي إلى أي ائتلاف حاكم. ستة أحزاب يمينية ودينية من أصل ثلاثة عشر فائزة في الانتخابات الأخيرة تقصي هذا الاحتمال نهائيا عن أجندتها، والخمسة الأخرى من اليسار ويسار الوسط لن تأخذ بهذا الخيار المحرم، أيا تكن الظروف. «حزب الصهيونية الدينية»، الذي يجمع زمرة من عتاة متطرفي الأحزاب المحظورة إسرائيليا، يرفض رئيسه بتسلئيل سموتريتش مجرد الجلوس مع منصور عباس، ونظراؤه في أحزاب أخرى يماثلونه وإن لم يفصحوا علنا. لم يظهر في المشهد الانتخابي الإسرائيلي أي تأثير لـ«إنجازات» نتانياهو التطبيعية مع دول عربية دامت، ولم يرد «السلام» في خطاب أو برنامج أي مرشح. يترسخ الإسرائيليون في عنصريتهم خصوصا أن «صفقة القرن» وعدتهم بـ«طرد العرب»، كما يطالب ايتمار بن غفير.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»