حين صنف فيلم (الكيت كات) المنتج عام 1991 من إخراج وتأليف داود عبد السيد، وبطولة محمود عبد العزيز، وأمينة رزق، وشريف منير، ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، لم يكن كثيرون يعرفون أن قصة الفيلم مستوحاة من رواية «مالك الحزين» للروائي المصري إبراهيم أصلان «1935-2012» أحد أبرز كتاب جيل «الستينيات، الذي كتب مقالة قبل سنوات - أعادت نشرها جريدة الوطن قبل أسبوعين في عددها الأسبوعي- سرد فيها كيف كتب تلك الرواية البديعة، في أول تجربة روائية له، وهو المعروف أصلًا ككاتب قصة قصيرة، لكن منحة التفرغ هي التي أهلته لإبداع العمل.

بدأت المقالة بسؤال وُجه لأصلان حول المنعطف المهم الذي أخرج منه الكاتب!.

بدى السؤال له صعبًا ويحتاج إلى وقت كافٍ للإجابة، غير أنه وبعد عمق تفكير وصل لإجاباتٍ ثلاث وأساسية حول الفكرة. استوقفتني قصته مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ قبل ولادة رواية (مالك الحزين) حيث قال:

«كنت قد عرفت ككاتب للقصة القصيرة، وكان العم الكبير نجيب محفوظ مهتمًا ومتابعًا لما أنشره في ذلك الوقت، كنا نلتقي كل يوم جمعة بمقهى ريش ونتحدث حولها، وفي ذلك الوقت كنت أعمل بهيئة المواصلات بنظام الورديات، الأمر الذي جعلني أنقطع أحيانًا عن لقاء الجمعة، وهو عندما عرف بطبيعة عملي تكرم بكتابة رسالة يزكيني فيها لمنحة تفرغ من وزارة الثقافة، أيامها لم يكن عليك أن تتقدم بنفسك لهذه المنحة، وسمعت الدكتورة لطيفة الزيات بالأمر فكتبت تزكيني هي الأخرى، وكذلك فعل الشاعر صلاح عبدالصبور، وحصلت فعلًا على تفرغ لمدة عام قابل لتجديد. ونشر الخبر باعتباري حصلت على التفرغ لكي أكتب رواية، وعندما قلت إنني لا أكتب روايات، ولكن قصصًا قصيرة علمت أن التفرغ، زمان، لم يكن يمنح إلا لكتابة الرواية أو المسرحية الطويلة أو البحث، قلت «خلاص.. نكتب رواية». هكذا كتبت «مالك الحزين»».

وهنا عدت أدراجي لنقاش- قبل وقت طويل من تاريخ قراءتي لهذه المقالة - دار بيني وبين مجموعة من الصديقات حول هموم الكاتب، وعراقيل النشر الحالية، وما تفعله الحياة العملية الجافة والعمل المستمر من تنكيل في حالة الإلهام وعرقلة للإبداع. وهذا ما يجعل من فكرة الكتابة بالنسبة للكاتب أمرًا مؤجلًا أو عسيرًا في أقل تقدير، وفقًا لانشغالاته التي قد تتعارض وجو التهيئة الكتابية. فمن المعروف عن سير الأدباء حول العالم، أن الكتابة تحتاج إلى شحذ نفسي/‏ فكري، واستعدادًا عامًا للدخول لذلك المحراب المقدس. يقول Bertolt Brecht عن هذا (لايستطيع الكتاب أن يكتبوا بالسرعة التي تشعل فيها الحكومات الحروب، فالكتابة تحتاج إلى بعض التفكير). وعليه تختلف العادات الكتابية من كاتب إلى آخر، منهم من يستعد لها بالهدوء والعزلة المطلقة، ومنهم من يصاب بحالة من الاكتئاب والصمت، ومنهم من يختار لها الليل ويكتب لساعات طويلة، ومنهم من يستقبل بها اليوم من أوله، ومنهم من يستعد لها بدنيًّا مثلما كان يفعل نجيب محفوظ، إذ كان يقطع مسافة ساعة من المشي صباحًا قبل أن ينخرط في الكتابة.

استنادًا لكل ما ذكر آنفًا فإن فعل الكتابة أشبه بمخاض عسير يحتاج إلى تهيئة وتفرغ كاملين، ما يجعل الأمر محمولًا بمشقة ليست سهلة بالنسبة إلى كاتب وموظف في آن واحد. إذ أن الجمع بين تينيك الرمانتين في كف واحدة أمر خارج الاستطاعة ولابد من التضحية بإحداهما لصالح الأخرى. ونكاد نعرف أي الرمانتين أولى بالمحافظة عليها لمجابهة الحياة بمتطلباتها وأعبائها.

لذلك، انتبه صناع الثقافة في العالم المتقدم إلى هذا (الهدر الإبداعي) الذي منه ولدت فكرة (تفرغ المبدعين) خصوصًا الممتهنين للكتابة والتأليف، حيث تحولت منح التفرغ إلى (موتورات) لدفق الثقافة والمعرفة والوعي، مقدمة للبشرية خلاصة تجارب إنسانية تعود في أصلها لعقول خلاقة نيرة، وبفضل هذه (التقاليد) النهضوية العبقرية، وباهتمامهم بالكُتّاب المبدعين باعتبارهم ثروة وطنية لا يجب أن تهدر، كان لهم السبق إلى التنوير والثراء المعرفي والإبداعي.

هنا لا يفوتنا التنويه إلى تجارب بعض الدول العربية في هذا الشأن، ففي مصر، يقدم المجلس الأعلى للثقافة سنويّا منحا للتفرغ في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن شروطها تقديم المبدع أو الباحث خطة تفصيلية لمشروع تفرغه، ويتلقى من يقع عليه الاختيار مكافأة مالية شهرية لمدة عام، بحد أقصى أربعة أعوام متصلة أو منفصلة. كما تموّل وزارة الثقافة بالأردن مشروعات تفرغ مشابهة في مجالات متنوعة «الأدب، الفن التشكيلي، التصوير الفوتوغرافي، الموسيقى، المسرح، الدراما، الأفلام الوثائقية»، وتُقبل المشروعات الإبداعية أو تُرفض وفقًا للخطة الأولية التي يعدها المتقدم، ويشترط عدم خروجه عن تفاصيل هذه الخطة المسبقة.

أليس من الممكن لنا محاكاة تجربة هذه الدول لتطبيق هذا المشروع الذكي بكامل الاحترافية، على أمل أن نأخذ بيد الكاتب السعودي لمرحلة (الاحتراف الأدبي) أسوة بدول العالم أجمع؟.

وإذا كانت الروائية التشيلية الجميلة إيزابيل الليندي تقول: (الكتابة مثل الشعوذة، لا يكفي إخراج أرنب من القبعة، بل يجب عمل ذلك بأناقة وطريقة ممتعة)، هل متاح أن نتساءل: أما آن الأوان لدفع أولئك المشعوذين وأرانبهم إلى الواجهة؟!.