من أسمى مقاصد قراءة الكتب والمصادر التاريخية للمسلمين هي تذكر نعم الله عليهم والاستفادة في التجارب الناجحة وإعادة إحيائها والاعتبار بالنكسات ومحاولة تجنب دوافعها.

ومن الدروس التي نتعلمها عند الاطلاع على المصادر التاريخية هي الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تحيط بمعظم مناطق الجزيرة العربية على مدار العصور وإن كانت بعض المناطق أفضل حالاً من بعضها وذلك حسب توفر المياه واستتباب الأمن. فقد عانت الجزيرة العربية لقرون طويلة من الفقر والحاجة في معظم مناطقها بما فيها الديار المقدسة التي كانت تعتمد اعتمادًا مباشرًا على هبات وصدقات المسلمين من خارج الجزيرة العربية.

وحظيت مكة المكرمة على مدار العصور بعناية خاصة من أثرياء المسلمين من مختلف البلدان فكانوا حريصين عندما يأتوا حاجين للبيت أو معتمرين به أن يضعوا أوقافًا أو يوزعوا صدقات للفقراء رجاء ما عند الله، ونقتصر في هذا المقال على ذكر نماذج إسهامات المحسنين الهنود في مكة المكرمة في عصور زمنية مختلفة.

بالرغم من أن المسلمين بدء في فتح أجزاء من السند سنة 92 هـ على يد محمد بن القاسم الثقفي بتوجيه حاكم العراق الحجاج بن يوسف في عهد الوليد بن عبد الملك ثم توالت الفتوحات في اتجاه الهند إلا ان الإسلام لم ينتشر كل أنحاء الهند الكبرى إلا بعد أن عزا محمد الغوري دلهي ووصول إلى ثغور البنغال حوالي سنة 597هـ. وقد كانت هناك دويلات إسلامية عديدة في الهند وليست دولة إسلامية موحدة حتى أحكم المغول سيطرتهم على أغلب مناطق الهند بداية القرن 17 ميلادي ومن ذلك نفهم أن إسهامات وتبرعات الحكام الهنود لمكة المكرمة وساكنيها كانت من مناطق وحكومات هندية مختلفة وليست حكومة مركزية واحدة حتى بداية القرن 17 ميلادي.

تقول الدكتورة حصة الجبر في بحث لها عن إسهامات الهند في الديار المقدسة أنه في بداية القرن 15 ميلادي كانت الهند تمثل منجم الذهب الحقيقي لأهل مكة المكرمة بسبب أقدام حجاجها الأثرياء على أعمال الخير وكانوا يتسابقون في توزيع الهبات الكثيرة وإقامة المؤسسات الخيرية لكسب دعاء سكان هذه المدينة المقدسة. وتضيف الجبر أن في حوالي عام 1407م قام أمير مكة السيد حسن بن عجلان بمخاطبة أحد حكام الهند المسلمين طالبًا من الحاكم الهندي المسلم خيام لتظليل المصلين من الشمس خلال صلاة الجمعة في المسجد الحرام، وقد استجاب الحاكم لطلب ابن عجلان وقام بإرسال الخيام، وقد نصبت حول المطاف لكن سرعان ما نزعت تلك الخيام من مكانها بسبب تعثر الناس فيها وقد الخيام أمير مكة لنفسه.

وكان من ضمن اهتمام المحسنين الهنود بناء الأربطة في مكة المكرمة وهي أوقاف سكنية يقيم فيها الحجاج والفقراء و طلاب العلم، وتنقل الدكتورة محاسن الوقاد أن أهل مكة حتى بداية القرن الخامس الهجري يستقبلون الحجاج في دورهم ومن غير أجر حيث كانوا يتلقون هبات من الخلفاء والمسلمين تغنيهم عن طلب أموال من الحجاج، فلما ضعفت الخلافة العباسية وقلت الهبات لسكان مكة بدأ سكان المدينة المقدسة في طلب أجرة على السكن من الحجاج مما دفع أثرياء المسلمين لبناء الأربطة في مكة المكرمة لمساعدة الحجاج.

وقد أقام حكام الهند عدد من الأوقاف السكنية في مكة في القرن 15 ميلادي منها رباط السلطان شهاب الدين أبوالمغازي أحمد بهمن ورباط السلطان محمود شاه ورباط السلطان محمد الخلجي ويقع في سوق الليل القريب من المسجد الحرام. وتضيف الباحثة الجبر أن بناء المدارس هي من أهم المشاريع الخيرية التي قام بها الأمراء الهنود في مكة المكرمة وقد تم تأسيس عدة مدارس دينية في القرن 15 ميلادي على نفقة حكام الهند وقد تم شراء عقارات و تحويلها إلى أوقاف لتمويل تلك المدارس لضمان استمراريتها ومن هذه المدارس المدرسة البنغالية التي تأسست سنة 814هـ وكانت تدرس على المذاهب الأربعة والمدرسة الكلبرجية المؤسسة سنة 830 هـ والمدرسة الخلجية والمدرسة الكنبايتية التي تأسست سنة 866هـ. وكانت هذه المدارس تميل إلى التصوف نوعًا ما.

من النماذج على دعم الهنود لمكة المكرمة وسكانه في القرن 16 الميلادي هي التبرعات التي قام بها حكام الهند من أصول مغولية حيث أشار الباحث صهيب عالم انه بين عامي 1576 إلى 1582 قدم سلطان الهند عن طريق أمير الحج الهندي قرابة 600 ألف روبية بشكل نقود إضافة للهدايا والبضائع وقد تم توزيعها على سكان مكة وكذلك أعطيات خاصة وهدايا لشريف مكة.

ويقول الباحث صهيب عالم في بحث له، إن السلطان أحمد شاه الأول ملك غوجارات أرسل إلى مكة خيمة صحراء كبيرة ومسقفة لإراحة الحجيج أثناء الطواف. كما استمرت المساهمات الهندية في حفر الآبار وتشييد المدارس وبناء الأوقاف السكينة للحجاج والفقراء بل قام السلطان مظفر شاه الثاني المتوفى سنة 1570 بشراء عقارات في الهند وإرسال عوائدها إلى مكة المكرمة.

وننتقل بشكل سريع لواحدة من أحدث الأمثلة على أعمال الخير والإحسان التي قدمها الحجاج والمحسنين الهنود لمكة المكرمة وسكانها في القرن التاسع عشر كون أن المقام لا يسمح لذكر الإسهامات في القرنين 17 و 18 الميلادي وهي المدرسة الصولتية.

المدرسة الصولتية هي واحدة من أقدم المدارس النظامية في الحجاز والجزيرة العربية، فقد قدمت إحدى المسلمات الهنديات وتدعى صولت النساء للحج سنة 1873، وكانت ثرية وتريد أن تعمل إحدى المشاريع الخيرية في مكة، فتم عرض عليها بناء مدرسة نظامية لافتقار المنطقة للمدارس النظامية، وقد قدم هذا الاقتراح العالم الهندي رحمة الله الكيرواني- رحمه الله الذي كون مدرسة داخل المسجد الحرام سنة 1868، وقد وافقت صولت النساء على المشروع وأعطت مبالغ مالية لبناء المدرسة التي كانت خارج المسجد الحرام وبعد اكتمال بناء المدرسة نقل الشيخ الكيرواني مدرسته من داخل المسجد الحرام إلى المدرسة الجديدة التي سميت الصولتية تخليدًا لاسم هذه المحسنة الهندية عليها رحمات الله.

في نهاية المقال لنتذكر حالنا سابقًا وحجم النعم التي أنعم الله علينا بها وننظر كيف تحول الحال بناء بفضل الله من مستقبلين للتبرعات من الهند إلى مرسلين تبرعات لها بالشكر تدوم النعم ونعوذ بالله من زوال النعم. .