في أحد اللقاءات النوعية ببرنامج التواصل المسموع «كلوب هاوس»، تحدث الأديب والشاعر قاسم حداد عن إنجازاته الأدبية الكبيرة، وعن أكبر التحولات التي حدثت في مسيرته الكتابية، الذي لفت نظري فيها حديثه عن أثر منحة الإقامات الأدبية الأربع التي حصل عليها خلال الفترة من عام 2008 حتى 2015 والتي تفرغ فيها للكتابة وأنجز خلالها الكثير من مؤلفاته وعلى رأسها «طرفة بن الوردة». منها منحة من «أكاديمية شلوس للعزلة» في شتوتجارت-ألمانيا، وهي مؤسسة أكاديمية تأسست منذ مطلع التسعينيات تقوم على فكرة التبادل الثقافي بين المجتمعات المختلفة، واستضافة فنانين ومبدعين في مختلف المجالات من أكثر من 120 دولة، وتهيئة أستوديوهات مجهزة للمقيمين أثناء تفرغهم الإبداعي فيها لإنجاز عمل أدبي أو فني أو بحثي خلال مدة محددة.

هنا قد نتساءل هل يحتاج المبدع بالفعل إلى نوع من العزلة أو التفرغ التام للتأليف الأدبي أو لأي منجز فني وإبداعي آخر؟ وهل للأنواع الأدبية والفنية (شعر، رواية، قصة، موسيقى، مسرح، تراث، رسم..الخ) أحقية في التفرغ كما يحصل عليه الأكاديمي أثناء إنجاز مهامه البحثية العلمية في مختلف الفروع الأكاديمية؟

لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل تتخذ قيمتها من النظرة التي تنظر فيها المجتمعات للآداب والفنون، فإن كانت قيمتها لديها أعلى، ويقينها بأن المنجز الفني والأدبي لمجتمع ما هو إلا رصد وانعكاس حقيقي لصورته الحالية، وسجل مهم لتوثيقه تاريخيا وإنسانيا وفق معايير الأدب وفنونه، وطريقة جمالية لتهذيب الأنفس وتصدير صورة ورسائل من مجتمع لآخر. هذه النظرة هي التي يستمد من خلالها أيضا من يمارس الفن (عزفا وغناء وتمثيلا وتصميما)، أو الأدب (شعرا وقصصا ونثرا وتأريخا) قيمته في المجتمع، فهل يتساوى أو يقترب التعامل والتقدير للأكاديمي في فرع من النقد أو العلوم الصرفة أو الطب أو غيرها مع الفنان والأديب؟ وهل تؤمن المؤسسات العلمية والحكومية والاجتماعية بأهمية المنجز الذي يقدمه على حد سواء: الروائي والطبيب، والموسيقي والكيميائي، والممثل والمهندس والطاهي والمخترع؟ فضلا عن المجتمع بأفراده المستقلين كيف تكون نظرتهم وتعاملهم مع الفنان والأديب.

لا أريد أن أقع في فخ الإجابات على التساؤلات أعلاه التي ستكون بمنظور شخصي إلى حد ما، ولكن قد نتفق جميعا أم صفاء الذهن والبعد عن المشتتات والإلهاء مع الاحتكام للمزاج العام وأساليب الإبداع الخاصة جميعا تؤثر في خروج أي منجز أدبي أو علمي أو فني. ولعل هذا الجانب يذكرنا بالمبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة قبل عامين من الآن عن «التفرغ الثقافي» الذي لم نسمع عنه بعد ذلك إلا ما قيل حوله وقتها بأنه: «برنامج يركز على تفريغ المبدع السعودي لإنجاز مشروعه الثقافي أيا كان». وهو بالفعل احتياج حقيقي لدى كثير من المبدعين في مختلف الحقول الذي يتعارض لديهم الرغبة في الإنجاز مع الوقت الذي يمنح لأولويات العمل أو الأسرة. وقد تجعل وزارة الثقافة من هذه المبادرة التي لم تر النور بعد، مشروعا عملاقا على مستوى الدولة ليكون هناك مقرات في مناطق الجذب السياحي ليقام فيها مؤسسات للعزلة الأدبية على غرار تلك التي في شتوتغارت، بخاصة أننا في وطن يضم تباينا شاسعا وثريا أدبيا واجتماعيا وحضاريا يملأ الميدان الثقافي المحلي بالإنجاز والتنوع، ويمنح المثقف الخارجي الذي لو أتيحت له فرصة إقامة أدبية لاستطاع أن ينقل صورة عن هذا الاختلاف الثري. وهنا تجدر الإشارة لمبادرة نوعية قام بها معهد مسك للفنون للتبادل الثقافي بين فنانين من المملكة وخارجها تشمل في نسختها الأخيرة مع الإقامة الفنية تخصيص أستوديوهات بخاصة للفنانين وإقامة معارض للأعمال المنجزة ترافقها برامج تدريبية وأنشطة عامة. وهو ما ذكرني بما كان قائما في مركز الملك فهد الثقافي «المفتاحة» بأبها حينما كانت هناك أستوديوهات بخاصة للرسامين والمصورين يمارسون فيها أعمالهم ويعرضونها للزوار الدائمين للمكان مما جعلني- ككاتبة- أغبط الفنانين البصريين على تهيئة محترفات بخاصة بهم لمواهبهم وأيقن أن الحظ والجمال حليفهم دائما.

في عام 2017 تحولت رواية «الزوجة» للكاتبة «ميغ والتيزر» لعمل سينمائي شهير، تدور قصته حول حصول الزوج على جائزة الأوسكار في الأدب نظير ما قدمه من أعمال أدبية روائية، من يقرأ الرواية أو يشاهدها يلحظ شعور الامتعاض والحزن لدى الزوجة طيلة الخط على الرغم من جمال الفوز بالأوسكار لزوجها؛ حتى يتكشف نهاية الأمر عن حقيقة أن جميع إنجازاته الأدبية كانت لها، فهي التي تكتب وهو ينشر العمل باسمه، وفي حوارهما الأخير قال الزوج عبارة مهمة وحقيقية حينما استبد بينهما الخصام عن أحقية أي منهما بالجائزة وبشعور الإنجاز: «ماذا عن كل تلك السنوات التي كنت أدلك فيها ظهرك وأحضر لك الشاي؟ وأطهو العشاء وأراقب الأولاد كي تستطيعي العمل دون إلهاء». ولأنه لا يجوز محاكمة شخوص عمل روائي على أعمالهم إلا أنه وصف هنا حقيقة ما يحتاجه الكاتب من «العمل دون إلهاء»، ولعل هذا ما جعل الزوجة في هذا العمل الروائي ترضى بأن تطمس هويتها واسمها من عملها الإبداعي لأنه تحقق لها شرط غياب الإلهاء لتمارس الفعل الذي تحب: فعل الكتابة. وهذا فضاء آخر من الشتات الذي تعيشه الكاتبات بالذات لخصته قديما الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف في كتابها «غرفة تخص المرء وحده» حين قالت: «إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة». هذا العزلة الإبداعية كانت تمارسها بشكل فعلي- على سبيل المثال- الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي التي تخصص الثامن من يناير كل عام موعدا للتفرغ والبدء في روايتها الجديدة والتي تنقطع فيها عن كل محيطها للكتابة لمدة تصل إلى شهرين مؤكدة أنها تقضي ما لا يقل عن عشر ساعات في الكتابة في غرفتها المخصصة لذلك؛ لا تتحدث مع أي شخص ولا تجيب الهاتف.

وبين أهمية العمل الأدبي بشكل جماعي أو فردي تبقى العزلة خيارا سهلا للبعض وصعب التحقق للكثير، ولكن الكتابة وأنا أنتصر لها أخيرا تبقى شغف ذاتي كما قالت ميغ والتيزر: «لا أحد يستطيع إبعاد الكتابة عنك، ولا أحد يستطيع أن يعطيك إياها أيضا».