في عام 2017 بدأت دراستي الجامعية في موسكو في تخصص العلوم السياسية، مما غير لي مفاهيم كثيرة بين الدراسة الأكاديمية والواقع، الجامعة مهمة لدراسة النظريات والتاريخ والمنهجيات التحليلية، ومن زاوية آخرى المجتمع الروسي الذي نتدارس في حياته وقيمه وسلوكه الكثير عن التاريخ والثقافة، ونستخلص منه العديد من الدروس التأملات والاستنتاجات.

عندما نتحدث عما نستنتجه من مجتمع مثل المجتمع الروسي فنحن نتحدث عن مجتمع عاصر الكثير وتوارث الكثير، وأيضا من المثير للاهتمام أنه مجتمع بين الشرق والغرب، نحاول في هذا المقال أن نضع عدة أسئلة داخل إطار، ونكشف عن حقائق متعددة الزوايا لم تكشف بعد. نركز في الكشف عن روسيا الحديثة ما بعد السوفيتية في إطار السياسات الداخلية والخارجية والممارسة السياسية داخل المجتمع سواء على الصعيد الأكاديمي أو الاجتماعي، مما يتيح أيضا للباحثين المتخصصين في الشؤون الدولية النظر إلى عدة زوايا من الممكن إن لم تكن واضحة سابقا.

سياسة روسيا الداخلية :

روسيا هي الجزء الشرقي من أوروبا الذي يعد مساحته 16.7 مليون كيلو متر، مما يجعلها أكبر دولة في العالم، وهذه من أهم المميزات التي تجعلها دولة عظمى، بالإضافة إلى سياساتها الداخلية التي تتميز بالوحدة الوطنية لروسية مع الأعراق وشعوب مختلفة يتشاركون المساحة الجغرافية نفسها من زمن القيصرية الروسية.

يتميز المجتمع الروسي بالوحدة، وسياسة داخلية قديمة تسمح بتقسيم السلطات بما يرضي جميع الأطراف والأعراق، مما يجعل لكل مجموعة تحكم نفسها داخل إطار الدولة الموحدة التي تحافظ على أمنها القومي.

روسيا دولة علمانية ليبرالية تعترف بحرية اعتناق الأديان والمعتقدات، ويعيش اليوم في روسيا 144 مليون نسمة سكانية، أغلبهم من المسيحين الأرثوذكس، وتقريبا 25 مليون مسلم، متعددة الإثنيات من روس وقوقاز وتتار، بالإضافة إلى الأديان الأخرى مثل اليهودية والبوذية وأقليات آخرى.

تعدد الأديان والمجتمعات العرقية لا يضيف للثقافة الروسية شيئا، بل الثقافة الروسية المتكاملة الأطراف، لها قوانين وأخلاقيات وثقافة هي التي تضيف طابعها الفريد لهذه المجموعات، مما يجعل هذه المجموعات مترابطة الثقافة داخل إطار حضاري واحد. أيضا روسيا تقع شمال آسيا وشرق أوروبا، مما يجعلها عالما مستقلا بذاته لا يمكن أن نصفها بأنها شرقية أو غربية؛ لأنها تجمع الشرق و الغرب، وإن كانت أقرب للشرق في عاداته وتقاليده.

سياسة روسيا الخارجية:

في كل حقبة من الزمن تتغير قواعد السياسة العالمية واتجاهاتها وأهدافها، ولا شك أن روسيا تلعب دورا في تشكيل هذه السياسات بين العملاقين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

إذا رجعنا قليلا إلى التاريخ الروسي سنجد أن الاتحاد السوفيتي كان يتبع نهجا اشتراكيا شيوعيا بداية من ثورة 1917 إلى سقوطه عام 1991، في هذه الفترة كان العالم ينقسم إلى معسكرين اشتراكي ورأس مالي، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وإعلان روسيا دولة فيدرالية ديمقراطية، نجد أن الملامح السياسة للعالم اختلفت، مما أفقد روسيا الكثير من جمهوريات أسيا الوسطى وأوكرانيا وبيلاروسيا وأرمينيا وجورجيا، ومن ناحية آخرى خارجيا انتصار الرأسمالية الأمريكية وتصدرها المشهد السياسي.

مثل هذه الدول تتخذ منهجيات دراستها أساليب أوسع ميدانية وتاريخية لتعدد الزوايا التي يجب للباحثين الاطلاع عليها، وهذا ما نتمناه من الباحثين السعوديين من استكشاف العمق الاجتماعي للاطار البحثي، للتعرف على جميع الحقائق التي وصلت لنا مغلوطة بسبب الأهداف السياسة لعدة جماعات كانت تتخذ من اسم روسيا انطلاقا لأهدافها مثل الاشتراكيين والشيوعيين.

ونرى الآن صعود روسيا مجددا للساحة الدولية بعد إعادة هيكلة سياسة الدولة داخليا وخارجيا بقيادة الرئيس فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، ويتجه العالم حاليا من سياسة القطب الواحد إلى تعدد الأقطاب الذي تشترك فيه روسيا والصين وأمريكا. مما يتيح للدول الإقليمية، التي منها دول الخليج العربي، توسعة علاقاتها مما يتيح لها: مكافحة الإرهاب الإقليمي، والمشاركة في الملفات الأمنية في المنطقة، وفتح أبواب التبادل التجاري والاستثمار، وتبادل الخبرات الثقافية والأكاديمية، والاستثمار في مجال الطاقة والنفط. وهذا ما شاهدناه فعلا في الزيارة المتكررة بين الأطراف أهمها زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- إلى موسكو في أكتوبر 2017، وزيارة الرئيس فلاديمير فلاديميروفيتش أكتوبر 2019 إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

وشهدت هذه الزيارات نقلة نوعية في درجة العلاقات بين الخليج وروسيا مما أتاح شراكات واستثمارات عالية المستوى في مجالات: الطاقة والأمن والصحة والتعليم والزراعة، وتهدف هذه الشراكات إلى تطلعات إستراتيجية وذكية من كلتا الدول للتقارب بشكل أكبر في مواجهة السياسة العالمية الجديدة متعددة الأطراف، بعيدا عن الاتجاه الغربي فقط.

المجتمع الروسي :

يعتبر المجتمع الروسي من العرق السلافي المتمركز في شرق أوروبا ويشمل: روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، ودول البلقان، بالإضافة إلى سلوفينيا وسلوفاكيا وصربيا، تتخذ هذه الدول نفس التاريخ العرقي الذي يجعل للمجتمع الروسي امتدادا تاريخيا وجغرافيا. تعتبر الفترة السوفيتية في التاريخ الروسي هي الفترة الحديثة في انتقال المجتمع الروسي من الزراعي إلى الصناعي، مما أضاف للمجتمع الكثير من التنظيمات المدنية داخل حدود الدولة، وأضاف لروسيا شكلها الحديث والقوي، وبالرغم من القمع الذي واجه الناشطين في تلك الفترة والتضييق على المؤسسات الدينية إلا أننا نرى الزاوية الإيجابية في الفن والعمارة والهندسة والأدب والفن في العهد السوفيتي، فالاتحاد السوفيتي مثله مثل أي دولة لها مميزاتها وعيوبها.

يعيش المجتمع الروسي في حقبة ما بعد السوفيتية حياة ليبرالية، وعصرية لا تتوافق تماما مع ثقافتها، مما أدى إلى اضمحلال الكثير من المظاهر الثقافية والحضارية الروسية التقليدية، وليست روسيا فقط تعيش هذه الحالة بل العالم العربي أيضا، لأن لكل شعب هويته الخاصة التي تتناسب مع قيمه و تطوره، مثل العالم العربي و الروسي، وهذا ما جعل العرب والروس عاجزين أمام الحضارة العولمية المادية الغربية.

وبهذا الشأن اتخذ الرئيس فلاديمير بوتين عدة خطوات لأحياء الهوية الروسية التي تتناغم مع الشعب الروسي داخليا وخارجيا، وأيضا دعم الرئيس بوتين المؤسسات الروسية الثقافية، ودعم معاهد اللغة الروسية خارج البلاد، مما يهدف إلى نشر اللغة والثقافة الروسية بين الأمم التي تهدف إلى التعارف والتسامح بين الشعوب.

ما لا نعرفه عن روسيا:

للأسف إن أغلب الصور التي تأتي لنا عن دولة مثل روسيا والشعب الروسي تكون ناقصة، وليست متكملة الرؤية، من مثل ما نشاهده في الأفلام الأمريكية عن أن روسيا هي عالم الجريمة والفساد والفقر، وفترة الحرب الباردة من العداء الرأسمالي للاشتراكية الروسية. وهذه الصورة النمطية تمنع شعوب العالم من استكشاف هذا البلد الرائع المليء بالطبيعة والثقافة والفنون، وشهد العالم في كأس العالم 2018 الفعاليات التي أقيمت في عدة مدن روسية الذي حقق نجاحا كبيرا.

هذه المعلومات التي تتعرض له الشعوب سواء من الراديو والتليفزيون والسينما ووسائل التواصل، علمتني الكثير عن سلبية هذه الصور النمطية التي تحرم الإنسان من معرفة الكثير، وبالطبع لا شك أن لكل شعب ما يميزه ويعيبه، لكن هذا لا يعني الاتفاق أو الاختلاف بل فقط الاستكشاف، الشعب الروسي أقرب للشعوب الشرقية في تمسكها بعاداتها وتقاليدها وقيمها في محيط الأسرة والصداقة والعلاقات الزوجية.

نختم مقالنا بأن الشعوب مهما اختلفت تبقى شعوبا تجمعها أطر المحبة والمودة والأخوة مهما حاولت الأيديولوجيات التفرقة بينهم، وللأسف هذا ما تحاول وسائل الإعلام جاهدة فعله، ونحتاج باحثين سعوديين يدرسون هذا المجتمع الكبير، ونحتاج أيضا أن تصل كتب الأدب والثقافة السعودية إلى روسيا، لكي يتمكن المجتمع الروسي من معرفة السعودية والسعوديين، وهذا حقيقة ما وجدته منهم كثرة السؤال عن السعودية والحياة بها. لأنه مثلما تصل لنا صور نمطية عن روسيا هم أيضا لديهم صور سلبية وناقصة عن السعودية، وأيضا الإعلام الروسي كسائر الوسائل الإعلامية العالمية يركز على السلبيات، ومن المؤسف أن هذه الصور لا تستهدف وعي الفرد العادي فقط، بل أيضا الأكاديميين الذين ليس لديهم مصادر كافية محيطهم عن السعودية، لذلك أكدت على أهمية دور الكتاب والأدباء السعوديين لترجمة أعمالهم.

ولكن هذا لا ينفي أن هناك العديد من الباحثين الروس الذين بحثوا في تاريخ السعودية والجزيرة العربي، ومن أهم هذه الكتب كتاب «تاريخ السعودية» للكاتب اليكسي فاسيليف، كتاب يدرس أعماق تاريخ السعودية والجزيرة العربية بكل موضوعية وشفافية.

ومن خلال ما نراه من تطور في العلاقات السعودية الروسية ووصولها إلى التحالف في جميع الأصعدة، عكس ما كانت عليه في الفترة السوفيتية، يتضح لنا حكمة القيادتين في تطلعاتها المستقبلية التي ننتظر ونترقب تطورها أكثر وأكثر.