الصين حضارة موغلة في القِدم. وقد كان لفلسفة كونفوشيوس، التي تولي الحكمة والأخلاق والطاعة عناية كبيرة، تأثير عميق في تشكيل الوعي في الحضارة الصينية. وثقافة أهل الصين لها سمات فريدة وخاصة، فهي شديدة الارتباط بالأرض والعمل والإنتاج.

وبسبب تراكم العلوم والتجارب الإنسانية، أنتج الصينيون للبشرية أجمل الحكم والأمثال في شتى شئون الحياة. وحكم وأمثال أهل الصين تعكس طباعهم المسالمة، وحب العمل والصبر والقدرة على التكيف. والصين عبر تاريخها لم تكن أمة عدوانية توسعية، بل هم أهل زراعة وصناعة وتجارة وبناء وإعمار، وتجد أمثالهم تعكس هذا الواقع الثقافي. ففي العمل والتعليم قال فيلسوفهم كونفوشيوس حكمته الشهيرة «لا تعطني سمكة كل يوم بل علمني كيف أصطاد».

وفي الدأب والمثابرة قالوا «طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة». وحاضر الصين المزدهر مرتبط بشكل ما بالماضي، وتحديدا المعاناة التي مرت بالصين في الفترة من 1840م حتى 1945م حين تنازعتها القوى الاستعمارية الأوروبية، وأذاقوا الشعب الصيني الويلات بما في ذلك اليابان الصغيرة، التي احتلت أجزاء من إمبراطورية الصين. استمرت تلك المعاناة حوالي مائة عام ويسميها الصينيون في بعض أدبياتهم «قرن الإهانة».

وعليه فإنهم كانوا في حاجة ماسة لخلق قصة نجاح وتفوق، وقوة لبث الروح وإعادة الثقة والأمل للأمة الصينية الجريحة. بدأت جهود الإصلاح الاقتصادي عام 1980م ومنذ ذلك الحين وعجلة النمو لا تتوقف، حتى وصلت إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وقد شكلّت العشرون سنة الماضية تحديدا التغيير الحقيقي في خريطة العالم الاقتصادية. فبينما كانت أمريكا تنفق تريليونات الدولارات في حروب مستعرة، في أجزاء متفرقة من هذا العالم بفائدة سلبية - بتقدير الأمريكان أنفسهم - كانت الصين تعمل بقوة وثبات، وبعيدا عن الصخب والأضواء، لبناء المصنع تلو الآخر وتجلب صناعات العالم لتكون مقرا لها. وكانت نتيجة هذا الجهد، أن ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين من 1.21 تريليون دولار عام 2000م إلى 14.34 تريليون عام 2019م.

بينما تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في أمريكا من 10.25 تريليون دولار الى 21.43 تريليون في نفس الفترة. والفرق في سرعة النمو واضح وجلي. وفي عام 2020م وعلى الرغم من الإغلاق والانكماش الاقتصادي عالميا، حققت الصين نموا إيجابيا قدره 2.3% عكس بقية الدول الصناعية الكبرى، التي كان نموها سلبيا.

والمحصلة أن الصين أصبحت تحت مجهر الإعلام العالمي بشكل كبير. والقوة بالطبع لها مصادر عديدة. وأول هذه المصادر هو أن الصين إدارتها مركزية، أي أن القرار في الإصلاح سريع ونافذ، ولا يجابه بمعارضات ومنافسات حزبية تبطئ تقدمه. ولا يوجد لديهم حملات انتخابية متضادة، ولا معارك إعلامية، ولا انقسام مجتمعي، فحياة الجميع تتمحور حول العمل والإنتاج. فأصبحت الصين هي مصنع العالم. وهذا جيد من ناحية حجم وكفاءة الإنتاج، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأفكار والخيال والإبداع والتطور التكنولوجي، فإن الولايات المتحدة تتفوق بقوة بفعل مناخ الحرية واستقطاب المبدعين.

النظرة المستقبلية في المدى القريب والمتوسط، تؤشر باستمرار الصين في هذا التقدم ولكن بمعدل نمو أقل 6-5% سنويا حتى 2025م مقارنة بمعدلات النمو العالية 7-9% التي حققتها الصين في الفترة 2010م - 2019م. ثم نأتي الآن للسؤال الجوهري. هل بإمكان المنافسين الكبار وقف تقدم الصين في الأمد القريب؟ في تقديري أن ذلك صعب، وتكمن صعوبته في أن الصين قد عملت بنية تحتية للاقتصاد، على أساس راسخ وعالي التشابك مع اقتصاد العالم. ومن عوامل القوة أن الصين قد خلقت شبكة إنتاج وتوزيع مرتبطة بعضها ببعض، فهذا المصنع مرتبط بذلك المصنع الذي هو بدوره مرتبط بآخر، وعليه لا يمكن بسهولة نقل أو إزاحة منتج أو صناعة بمفردها، لأنها أصبحت جزءا من منظومة عالية الكفاءة.

ولكي يخلق المنافس منظومة منافسة يحتاج زمنا مكافئا، لذلك الذي حققت به الصين تطورها. بالإضافة إلى أن حركة الشحن العالمي وسلسلة الإمدادات، قد ارتبطت جغرافيا وبنيويا بمصادر الإنتاج في الصين. ومن مصادر قوة الاقتصاد الصيني أيضا أن الكثير من الشركات العالمية الكبرى، قد اتخذت الصين موقعا لمصانعها، وهي بذلك تكون من أدوات الحماية والقوى الناعمة التي تدافع عن مصالحها. وكما أن الصين مُصدّر ضخم فهي أيضا مستورد ضخم للسلع، بمبلغ يتجاوز 2 تريليون دولار سنويا، وهي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة.

وبناء على هذه العوامل مجتمعة فإن استقرار اقتصاد الصين، هو استقرار لاقتصاد العالم. ولا يبدو أن المنافسين الكبار للصين في وضع تنافسي قوي، لعمل تغيير كبير في هذه المعطيات في الأمد القريب لأسباب مختلفة.

لا تزال الولايات المتحدة هي الاقتصاد الأقوى في العالم، ويتخذ طبيعة مختلفة بالاعتماد على التطور التكنولوجي والابتكار، واقتصاد المعرفة والخدمات المالية – يسندها نفوذها السياسي واحتضانها لمنظمات العالم - بينما تعتمد الصين على الإنتاج الحقيقي للسلع والمنتجات.

والصين تأتي ثانيا ولكن الفجوة بين القوتين الاقتصاديتين تتقلص يوما بعد آخر. ماذا بعد؟ في تقديري أن استمرار الصين في النمو بهذه الوتيرة، واقترابها من القمة - عرين الأسد – ربما يؤدي ذلك إلى نوع أكبر من التنافس والصراع على النفوذ له أدواته المختلفة. كما يقول الإنجليز: لننتظر ونرى.

نختم بهذه الحكمة التي قالها الصينيون كلاما، وطبقوها فعلا على أرض الواقع وهي «لايهم إن كانت خطواتك بطيئة، المهم ألّا تتوقف».