يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي، المولود عام 100 من الهجرة، «أفصح الناس أزد السراة» والفراهيدي إمام من أئمة اللغة والأدب العربيين، وهو واضع علم العروض، ويقول الأديب عبدالله بن خميس رحمه الله «إن الكثير من كلمات لهجة عسير فصيحة تماما، أو لها جذور ثابتة في تربة الفصحى» كنا نهبط إلى أجزاء من تهائم منطقة عسير، أو نصعد إلى بعض سرواتها، فنسمع تحية أهلها «سلام علاكم» فنتبسم من باب الطرفة والتندر، ونظنها لهجة دارجة أو اختلافا صوتيا، من باب الإمالة أو الإبدال، و لكن أبا بكر الأنباري العالم اللغوي المتوفى عام 328 من الهجرة يقول في كتابه «الزاهر»: «بعض قبائل العرب تقلب كل ياء ساكنة فتح ما قبلها، إلى ألف كقولهم السلام علاكم».

وهذا يؤكد أن أغلب اللغويين لم ينهضوا لدراسة ما يظنونه من كلام ولحن العامة المرذول، والفاسد، والدخيل، وغفلت عنه المعاجم والقواميس، على الرغم من صحته وفصاحته، ولذا سأذكر بعض المفردات على سبيل المثال فقط، التي يظن الكثير منا، أنها مفردة عامية سقيمة، أو مولدة وبالذات ما التقطته أذني، من مخزون بيئتي في عسير، عندما تضل طريقك في السفر، وبالذات ليلا وتسأل بدويا أو ريفيا ليدلك، فإنه يشير إلى النجوم ويقول: ضعها على حجاجك الأيمن أو الأيسر و «الحجاج» في اللغة بكسر الحاء عظم الحاجب، وفي التهائم نسمع كلمة «فلان بر فلان» لهجة عروبية آرامية، كما يقول الدكتور أحمد بن سعيد قشاش، المهتم بعلم اللغات، وكذلك مفردة «بت» بدلا من «بنت» لغة سامية قديمة، «أنحم» أي نحن، هي أصل ضمير المتكلمين في اللغات العروبية كلها، ذكر ذلك الدكتور القشاش ضمن لهجات «أهل السراة».

ونسمع في المجالس «العسيرية» بعض المفردات التي يظن قائلها أنها عامية، وهي فصيحة كقولهم «بلدم أي سكت» و «تباصروا، أعطى كل منهم رأيه» «برهت، ذهبت صبحا» «سام البضاعة، سأل عن ثمنها» «تحيفة، جميلة» «جغمة، رشفة من الماء أو غيره» «رصعه، دهسه وفي المعجم الوسيط ضربه بيده وطعنه طعنا شديدا» «الركيب، الزرع» «نتفه، قليل من الشىء» «عثري، الزرع الذي يعتمد على الأمطار» «تقارعوا، تغالبوا كما وردت في اللسان، وتقارع فلان وفلان، تناظرا وتباريا» «الكترة، النافذة وفي اللغة القترة بالضم، الكوة النافذة في الجدار».

وفي الأثر حديث أبي أمامة «من اطلع من قترة ففقئت عينه فهو هدر» «الحزة، الوقت والحين والساعة» ويقولون حزت البسط لا تفوتك، «المحوقة، المكنسة كما يقول مجمع اللغة العربية بمصر» «المذود، المكان الذي تعلف فيه الماشية، ويوضع فيه زادها كما تقول المعاجم» «دلبح، حنا ظهره وطأطه كما وردت في القاموس المحيط» «النغصة، الغيرة» «لبخه، ضربه» «المناقرة، المنازعة والمراجعة بالكلام، والخصومة» «دفره، دفعه في قفاه، أو في صدره وفي معنى آخر الدفعة، كقولهم جاءت الدفرة الثانية من الطلاب، وهذه من الكلمات المندثرة وقليلة الاستعمال ولا تسمعها إلا من كبار السن» «تشطا، تنبت قال تعالى: كزرع أخرج شطأه» «السافي، ريح التراب» «ثبات أو الثبة، جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا».

يقول الدكتور إبراهيم أنيس، رائد الدراسات اللغوية العربية وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة: «اللهجة مجموعة من الصفات اللغوية، تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، فالعلاقة بين اللغة واللهجة، هي بين العام والخاص، وقد كان القدماء من علماء العربية يعبرون عن اللهجة بكلمة اللغة واللحن واللسان» كالطمطمانية والكشكشة، وبالذات كشكشة قبائل ربيعة وبكر بن وائل، وهي قلب كاف المؤنثة شينا كما في عسير، كقولهم: «بي عنش، كيف حالش؟» فقد عدها الدكتور أنيس ناتجة عن تأثر الأصوات المتجاورة بعضها ببعض، وأورد مثلا لشاعر عربي يخاطب ظبية بقوله:

فعيناش عيناها وجيدش جيدها...ولكن عظم الساق منش رقيق، أما الطمطمانية، وهي إبدال لام المعرفة ميما، كقولهم في عسير: امبيت، امجبل، أي البيت، الجبل، فقد وردت على لسان «سيف بن ذي يزن» حين قاتل الحبشة، قد علمت ذات امنطع، أني إذا امموت كنع، اضربهم بذا امقلع، سمعت كهلا ذات ضحى شديد الحرارة يقول لابنه: «عجل وأنا أبوك حنذت الشمس» إفصاح مبهر، يتواشج مع شواهد القرآن الكريم، قال تعالى في سورة هود «فما لبث أن جاء بعجل حنيذ» .

قال نافع بن الأزرق لابن عباس رضي الله عنه: أخبرني عن تفسير هذه الآية قال: «الحنيذ هو النضيج مما يشوى بالحجارة». قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: «نعم أما سمعت قول الشاعر: لهم راح وفار المسك فيها ... وشاويهم إذا شاءوا حنيذا».

وقال السجستاني: هي المشوي في خد الأرض بالرضف وهي الحجارة المحماة، والرضيفة في عسير هي حجر أملس محمى على النار، يوضع في الدهن ليجلب النكهة، ولذة الطعم للعريكة. يقول جورجي زيدان: «إن عدم ورود لفظ في القاموس، لا يدل دائما على أنه عامي أو ضعيف».

ترى لماذا نسارع إلى تخطئة ما نسمعه من «العامة» وننكر عليهم كل ما يقولونه من دارج كلامهم، بينما هو فصيح وصحيح، ويؤدي وظائفه المعرفية والجمالية، وتجلياته ودقة تعبيره، وتواصليته ونفعيته؟.