من المتقرر عند أهل السنة والجماعة تحريم منازعة الأمر أهله، عملا بما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي- صلى عليه وسلم- بايع أصحابه- رضي الله عنهم- على «ألا ينازعوا الأمر أهله» أي: لا ينازعوا الحكام في حكمهم.

فإن قيل ما الحكمة من ذلك، ومن المستفيد؟ فالجواب كما يلي:

أولا: المستفيد هو المجتمع كله محكوما وحاكما، فإن الناس لا يصلحون فوضى، ولا يتحقق أمنهم واجتماعهم وعزهم، إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وإذا حصل منازعة الحكام دب الخوف والفشل وذهبت ريحهم بدليل قوله تعالى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»، قال شيخ المفسرين الطبري: أي وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل.

ومن كلام العرب قولهم: هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد، وركدت رياحه: إذا أدبر أمره.

ثانيا: أن الحاكم يرى ما لا يرى غيره من أفراد الرعية، فهو كالذي على رأس جبل يرى من جميع الجهات، بينما الرعية ليسوا كذلك فلا يرون كل ما يراه الحاكم، ولا يطلعون على كل ما يطلع عليه، ولذلك هو أدرى وأعرف، فليس لهم منازعته، ومن مصلحتهم عدم منازعته، ودورهم هو أن يبلغوه ما يرونه مصلحة، وينبهوه على ما يرونه مفسدة، بحكمة وأدب، وينتهي دورهم عند ذلك، وليس لهم أن يشوشوا عليه، أو يقولوا لماذا لم ينفذ ما قلناه له، لأنه هو الحاكم وليس هم، ولأن ما يرونه مصلحة قد يكون عارضه عند الحاكم مصلحة أكبر، وما يرونه مفسدة قد يكون بقيت لدفع مفسدة أكبر، ومن القواعد الفقهية المعلومة عند أهل العلم:

ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما إذا لم يمكن تلافيهما جميعا، وارتكاب أعلى المصلحتين ولو بتفويت أدناهما إذا لم يمكن الجمع بينهما، والأدلة على ذلك كثيرة جدا، منها على سبيل المثال: تقديم النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة تأليف قلوب المسلمين لا سيما أن بعضهم آنذاك كان حديث عهد بشرك، على مصلحة إلصاق باب الكعبة في الأرض، وجعل بابين لها يدخل منهما الناس ويخرجون، ومنها: تحمل المفسدة الصغرى وهي خرق سفينة المساكين، لتفويت مفسدة أعظم وهي أخذ السفينة من أصحابها غصبا.

فالحاكم يجتهد وليس ملزما أن يخبر كل من رفع له رأيا أو نصحا أن لديه موازنات أكبر، فهذا من السياسة الشرعية التي لولاة الأمور، وفي الحديث «عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم»، والمقصود: أن السياسة الشرعية هي لولي الأمر، ولذلك جاء النهي عن منازعته، وقد قال ابن أبي أوفى- رضي الله عنه: «إن كان السلطان يسمع منك فآته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه»، رواه الإمام أحمد.