من أفخم أدباء هذا العصر، الأديب المصري الشهير، مصطفى صادق بن عبد الرزاق الرافعي، المتوفى قبل نحو 84 سنة. عرف عنه الانتماء إلى مدرسة المحافظين في الشعر، وأنه انصرف عنه إلى الكتابة النثرية لأنه وجدها أطوع له. ولإبداعاته لقبه المهتمون بـ«معجزة الأدب العربي».

كتب، رحمه الله، عن رمضان المبارك وفلسفة الصيام بأسلوب بديع، واصفا الشهر الكريم بأنه «مدرسة الثلاثين يوما»، الذي «يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها».

قال الرافعي: «لم أقرأ لأحد قولا شافيا في فلسفة الصوم وحكمته؛ أما منفعته للجسم، وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك، وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة؛ لتقوية المعدة، وتصفية الدم، وحياطة أنسجة الجسم».

تعمق وتعملق الرافعي في فلسفة الصوم، حتى قال عنه: «إنه فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح: أن الحياة الصحيحة (وراء الحياة لا فيها)، وأنها إنما تكون على أتمها حين (يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون)، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة؛ ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة مد البطن مده من قوى الهضم فلم يبق، ولم يذر؛ ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب».

في موضع آخر من المقالة كتب الرافعي كلاما نفيسا، استخرجه كله، وبحسب كلامه من قول الحق، سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وتوقف كثيرا عند «الاطمئنان» و«المساواة» و«هدوء الحياة»، قائلا: «أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية؛ التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة؛ ليحل في محله (تاريخ النفس؟)».

استوقفت أديبنا الكبير الحكم الرمضانية، ومن أجلها عنده «تربية الإرادة»، من خلال تدريب الصائم على أن يمتنع باختياره وبإصراره وبعزيمته عن شهواته وملذاته، ويقول: «أليست هذه هي إتاحة الفرصة العلمية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنةً لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفةً بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟».

أبدع الرافعي حقيقة، وهو يحلق بالعقول عن الصيام و«أيامه القلبية»، حتى قال: «هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها»، ولم يجانبه الصواب، وهو يختم كلامه العقلاني بقوله: «ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: مدرسة الثلاثين يوماً».