وجدته منكسر الخاطر.. يأسف على سبعين أو أكثر من الأعوام، قضاها بين أرفف المكتبات وردهات التعليم باحثا ومعلما ومثقفا تنويريا كبيرا.. قلت له: علام الأسف؟! وأنت الذي تعرف جيلا من الذين مروا بين يديك وتحت ناظريك، حتى أصبحت رمزا لزمن بأكمله تنويرا وتوعية ونشرا للثقافة في كل مكان..

فتنهد طويلا ثم قال: بعض من الغصص لا تزول مرارتها أبدا؛ ذلك أن صعود الجاهل في مجتمع ما بواسطة متغير المال وانزواء المثقف مستور الحال، من أكبر المرارات التي قد تجتاح من كان مثلي في الأمتار الأخيرة من ماراثون العمر.

وواصل حديثه قائلاً: ما أن تتأمل بعض المشاهد حتى تصيبك الدهشة التي تقطع الكلام والملام، وتجبرك على العودة للوراء حتى تتبين الأمر، ومهما فركت عينيك لتتأكد أن ذلك ليس حلما إلا ورجع بصرك إليك حسيرا كسيرا مما تراه، وهنا تتقدم كل الأسئلة الاستنكارية، ولا يتجرأ جواب واحد أن يفصح عن الحقيقة التي أصبح فيها رجل لا يتقن القراءة إلا تهجيا، ولا الكلام إلا تأتأة في صدارة الأمكنة والاهتمام ممتطيا درهمه وديناره، والجميع يصغي إليه لأن قوله هو الفصل، وفي بيته ينتهي تطواف من يطلق عليهم البعض وجهاء، ثم أضاف قائلاً: لا غضاضة في الاحتفاء بكل مجتهد حتى صاحب المال، ولكن عندما يكون ذلك الاحتفاء على حساب أصحاب الكَلِم والقلم الذين يُضرب بينهم وبين التقدير بسور باطنه وظاهره العذاب، فتلك المشكلة التي تبعث الحزن، لأنك حينئذ تدرك أن كل المعرفات عن قيمة العلم والعلماء التي جاهدت دهرك لطرحها في مجتمعك تصبح غير معروفة، وإن عُرفت فهي غير مفهومة بما يجعلك في حالة من الإشفاق على تلك المجتمعات التي تصادر مفاتيح نجاتها وتقَدِّمِها لصالح تلك الأموال عمياء البصر والبصيرة التي أثبتت في كل المراحل أنها تسكن مربع التحديات والمخاطر وليس مساحة الفرص والأمل.

قلت له مواسياً: هوّن عليك فخسارة موقف لا يعني خسارة المبدأ، يبدو أنك واجهت موقفا استثار شيئاً من السخط لديك. فقال: الأمر ليس متعلقا بشخصي، بقدر ما هو متعلق بقيم المجتمع التي إن تنازلت من علوها ليحتل مكانها المال الفارغ من أي وعي، حينها سنصبح جميعا أنا وأنت وكل أفراد المجتمع سلعا تكتسب قيمتها من الحالة السعرية التي تكون عليها لحظة الحدث، وخطورة الأمر تتضاعف عندما نعلم أن وزن الأشياء بعمومها سيصبح رهنا لسوق كبير يتم تداول الأشياء فيه بمرجعية النقود التي تعرّف الحياة من الزاوية النفعية كمآل أخيرٍ وأساسي للحياة التي هي أجل وأسمى من أن تصبح يوما عرضة للمزايدات اليومية في بازار الحياة الكبير، ذلك أن قيمة الإنسان الحقيقية مرتبطة بحالة الوعي والنضج التي ترتب قِيم الحياة في ضوء سمات وأخلاق المجتمع التي تأتي نتيجة للوعي التراكمي المتنامي لأي مجتمع يريد السيادة، ويثق أن المعرفة زاد ثمين لكل المراحل، وقوة استثنائية في حسم ملفات القلق الإنساني التي لن يكون المال بأي حال من الأحوال هو الحل والإجابة في مفترقات طرق الحياة، بل لابد من جعل المرجعية الكبرى لكل شأنٍ إنساني هو نور العلم وجلال المعرفة ونواتجهما من الأخلاق والمبادئ التي يمكن أن تواجه عبثية الحياة الإنسانية بتلك الصرامة التي لابد منها، لينجو جميع من على ظهر السفينة بأقل الأضرار التي قد يتسبب فيها أعمى بصيرة أوكل إليه الأمر في غفلة من الزمن فأرهق الحياة والأحياء وساق الناس ليعبروا دروب الآلام من خرم إبرة.