هذا المقال الأول من مقالين، ففي هذا المقال سأعرض رأي المفكر إبراهيم البليهي عن معضلة «البرمجة التلقائية»، التي هي سبب في بعض مظاهر التّخلف الحضاري التي نشاهدها حولنا، حيث سأعرض رأيه عن: ماهية «البرمجة التلقائية»، وأثرها المُدمر والمعيق، ولماذا هناك صعوبة في الانعتاق منها.

وفي المقال الثاني سأتحدث عما طرحه المفكر الكبير من حلول لهذه المعضلة البشرية الكبرى. عكف المفكر إبراهيم البليهي، قرابة ثلث قرن، يشتغل على مشروعه الإصلاحي، ليصل إلى ما يسميه «تأسيس علم الجهل لتحرير العقل»، وذلك عن طريق ثلاث نظريات: نظرية التلقائية، ونظرية عبقرية الاهتمام التلقائي، ونظرية العقل يحتله الأسبق إليه.

وهذا الكتاب الذي بين يدي عنوانه «عبقرية الاهتمام التلقائي»، حيث يرى فيه «البليهي» أن البشرية قد تقدمت تقدما هائلا في مجالات الوسائل والأدوات والقدرات العملية، لكنها ما زالت شديدة التخلف في المجالات الفكرية والأخلاقية.

في الكتاب يسرد «البليهي» تاريخ رجال كانوا بالأساس أطباء، ولكنهم هجروا الطب، فأصبحوا مبدعين كل في مجاله، حيث أصبح منهم الفيلسوف والمفكر والأديب والشاعر والقائد السياسي؛ والسبب أنهم استجابوا لاهتماماتهم التلقائية المستغرقة.

بالمقابل كان هناك من هجر الطب، ليصبح متعصبا قوميا، أو متعصبا إيديولوجيا، أو إرهابيا، أو حاكما مستبدا؛ والسبب أنهم كانوا الصورة المنعكسة لبرمجتهم التلقائية.

في الصنف الأول كان هناك وليم جيمس (الفيلسوف)، وجورج كليمنصو (زعيم سياسي)، وجون كيتس (شاعر)، وغوستاف لوبون (فيلسوف)، ومهاتير محمد (قائد سياسي). وفي الصنف الثاني كان هناك غولدشتاين (إرهابي)، وبشّار الأسد (زعيم مستبد)، ورادوفان كاراديتش (سفاح).

بخصوص «البرمجة التلقائية»، فإن المؤلف يرى أن الإنسان كائن تلقائي وكائن ثقافي وكائن اجتماعي، فالإنسان لا يولد بعقل ناجز بل بقابليات فارغة ومفتوحة، تجعله يتبرمج تلقائيا بما هو سائد في بيئته المحيطة، فهو كائن تلقائي، فالطفل يتبرمج تلقائيا بتصورات أهله ومعتقداتهم وقيمهم وأوهامهم واهتماماتهم، فتتشكل شخصية الطفل وسلوكه ومواقفه وقيمه ومعتقداته بالثقافة التي تحيط به من كل جانب، فتتحدد بذلك بنيته الذهنية والوجدانية بالبيئة الثقافية، فهو كائن ثقافي.

إن الإنسان ليس بما يولد به ولكن بما ينضاف له وما تَتشرّب به قابلياته تلقائيا وما يتلوها من تعزيزات، ومن ثم يندمج الإنسان في القطيع، لأنه كائن اجتماعي، فهو يهتم برأي الناس فيه، وهذا يؤثر تأثيرا شديدا على سلوكه، فهو لا يشعر بذاته إلا بمقدار اعتراف الآخرين به وتقديرهم له، حيث إن التنافس على المنزلة والأهمية من أقوى عوامل السلوك.

هذه البرمجة تجعل الناس يفكرون تلقائيا، فَيظلّون محكومين بما تبرمجوا به ونشأوا عليه مهما اختلفت مجالاتهم التخصيصة والمهنية. إن الإنسان كائن عقلاني فقط ضمن نطاق مهنته وتخصصه، وبخلاف ذلك فهو كائن تابع تصوغه البيئة، وتحدده الظروف، وتقولبه الثقافة؛ فتصوراته عن الإنسان والوجود والحياة و رؤيته للعالم تأتي انسيابا مما تبرمج به تلقائيا في طفولته، فالقابليات يصوغها ويحتلها الأسبق. إن ارتهان الإنسانية إيديولوجيا لأسر التاريخ وأثقاله وهوياته ورواسبه وحتمايته وجهالاته وأوهامه، كل ذلك أبقى البشرية متخلفة فكريا وأخلاقيا، وهو العائق الأساسي الأكبر الذي يشد الإنسانية إلى الأسفل، بل يبقيها في الحضيض من الصراع والتقاتل والعجز عن تبادل الفهم.

إن «البرمجة التلقائية» هي مصدر الصراعات والنزاعات والاقتتال الشنيع بين أهل الأرض. إن الانعتاق من «البرمجة التقائية» في غاية الصعوبة، ولا يحصل إلا لقلة من الناس، وذلك لأن ما تم التبرمج به من معتقدات وخلافه لهو مَصُون ومحتجب عن فطنة العقل الناقد، المُتشكِّك، الفاحص؛ لأن المعتقدات تتلبّس العقل، وتحدد معاييره، وطريقة تفكيره، ومنظومة اهتماماته، ومناط أحكامه؛ فهو لا ينظر إلى الأمور إلا من خلالها، ولا يسلم من أذى «البرمجة التقائية» حتى ذو الكفاءات العلمية.

كذلك، فإن المُتبرمِج لديه وهم بأنه يملك الحقيقة المطلقة، والمُبَرمجون يرفضون الشك، ويستهجنون دعوات المراجعة، ويُقدِّسون الماضي، ولا يُبجِّلون عمل الرواد المبدعين.

إن معضلات العرب، كما يوضح المؤلف، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة عوامل رئيسية: الانغلاق الثقافي، والخنق الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والتزواج بين هذه العوامل، لأن المعضل الأساسي هو معضل ثقافي وليس الخلل السياسي والاجتماعي سوى من نواتج الإعضال الثقافي، لذا يتضح دور «البرمجة التلقائية» في نشوء هذه العوامل المُعطِّلة.

في المقال القادم سأتحدث عما طرحه «البليهي» من حلول لهذه المعضلة البشرية الكبرى.