كل ما سبق يقتضي الإشارة إلى سمتين رابعة وخامسة تضاف إلى الثلاث التي تشترك فيها الحركات المتطرفة حول العالم بمختلف دياناتها، وهذه الرابعة والخامسة وهي الأهم (معاداة الحداثة، معاداة الدولة الحديثة)، والتي تكاد تكشف لنا ما وراء السطور فيما أشار إليه رضوان السيد في مقاله (فصامات الواقع والوعي لدى المثقفين العرب) عندما أشار ــ بلطف شديد ــ إلى طه عبدالرحمن وعبدالوهاب المسيري ووائل حلاق.
كذلك محمد المحمود في مقاله (القطبية الجديدة ورد الاعتبار القومي) تحدث عن وائل حلاق بعد الإشارة إلى صاحبيه في (الأيديولوجيا القطبية) طه عبدالرحمن وأبو يعرب المرزوقي، فيرى أن كتب وائل حلاق تشتمل (في جوهر رؤيتها العامة على أصولية إسلامية إنغلاقية) مع تذكير القارئ بأن وائل حلاق قد دافع عن الإسلام رغم مسيحيته لأسباب قومية، ونضيف ــ احتمال مهم ـــ بأن الكاثوليكية كمذهب لها أثرها في تكوين وائل حلاق، فقد انتقد وائل حلاق في أحد لقاءاته ــــ مع حسن أزد ترجمة كريم محمد ــــ كل من ينساق ويكرر السردية الأوروبية لإدانة انتهاكات الكنيسة الكاثوليكية، فرغم ما في هذا الاحتمال من مجازفة للنوايا بأن وائل حلاق (الكاثوليكي) يعاني عقدة ضد النهضة الأوروبية التي تتكئ على إدانة الكاثوليكية تحديداً، ويراوغ عنها بلغة استشراقية ترفع تاريخ التشريع الإسلامي إلى مستوى طوباوي رومانسي لم يحصل في الواقع، كي يصمد أمام مفهوم الحداثة والدولة الحديثة، مع اعترافه في اللقاء المشار إليه بأن (المعرفة بما فيها الأكاديميا هي السياسة مضافاً إليها الحرب بوسائل أخرى) فمن يحارب وائل حلاق؟ هل يحارب الجهل؟ وهو يخلط مثل رفاقه المذكورين بين الاستشراق الأكاديمي والاستشراق المسيس السطحي المرتبط بالإدارة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، مما دعا هاشم صالح لكتابة مقال بعنوان (ثناء على الاستشراق) للتفريق بين هذين النوعين وما قدمه الاستشراق الأكاديمي من خدمة علمية للتراث الإسلامي، موضحاً بأن المنهجية الفيلولوجية التاريخية التي طبقها المستشرقون على التراث الإسلامي سبق وطبقها العلماء الغربيون على التراث اليهودي المسيحي (وما كان هدفهم تدمير تراثنا اللهم إلا إذا كانوا أيضاً يرغبون في تدمير تراثهم أيضاً)، ومن المفارقات أن هاشم أشار إلى أن حلاق ليس إلا امتدادا يتابع أعمال المستشرق جوزيف شاخت، وهنا يتضح وجها الخطاب لحلاق ما بين وجه للغرب ووجه للمسلمين في الشرق، مثله في ذلك وعلى مستوى ليس أيديولوجيا بل ديماغوجي المدعو طارق رمضان، تمنيت على حلاق أن يحسم جدل الموقف النفسي المؤثر في عطائه العلمي الرصين، ما بين الاستشراق الأكاديمي والاستغراب كردة فعل باطنية ضد نهضة أوروبية حداثية وهو العربي الشرقي الكاثوليكي.
بالنسبة لطه فسبق وقرأت له (الفلسفة والترجمة) و(القول الفلسفي) و(روح الدين)، أبهرني تمكنه اللغوي المفاهيمي الذي رغم ما فيه من أصالة معقولة لمحاولة (فلسفة إسلامية) إلا أنه ولسبب ما ظننته طالباً غير نجيب يسير على خطى هايدغر، فكأنما الأدوات هايدغرية (مشوهة قزمة) واللسان عربي (فصيح بليغ)، لكن هايدغر أكثر قدرة وعمقا من طه إذ ينكر وجود ما يسمى (فلسفة مسيحية) ويعتبرها كتربيع الدائرة، فالفلسفة في نظر هايدغر (تتحدد بدءًا من ذاتها، لا من مقدمات إيمانية) ولهذا فمهما حاولنا التناغم مع أطروحات طه ذات البعد العرفاني الصوفي (شكلاً) والأيديولوجية (مضموناً)، فلن يفوتنا ما أوضحه برتراند رسل في التصوف والمنطق إذ يقول: (يمكن التوصية بالتصوف باعتباره موقفاً بإزاء الحياة، وليس كعقيدة حيال العالم...) ولهذا فما أثار إعجاب الإسلام السياسي بطه ليس إلا قدرته المذهلة في تحويل التصوف من موقف روحاني إزاء الحياة إلى أيديولوجيا/عقيدة حيال العالم، ومن يقرأ كتاب (روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية) يكتشف قدراته المذهلة في تحويل (الديني) إلى (أيديولوجي)، كما فعلت الحركات الإسلامية من قبل مع أدبيات السلفية الحنبلية، حيث استنزفتها في معركتها الأيديولوجية إلى آخر قطرة حتى تشوهت، وما يفعله الآن طه ليس إلا استخدام أدبيات منطقة دينية بكر لم يمسها الإسلام السياسي بعد، وأقصد (التصوف)، فالتصوف (النقي الروحاني) يتحول ـــ في مآلات خطاب طه ـــ إلى تصوف أيديولوجي عقائدي ضد (الآخر)، وها هو في كتبه يحاول استنزافه أيديولوجياً إلى آخر قطرة.أما رضوان السيد فما زال يصر ـــ ونحن معه ـــ على ثلاثيته المتمثلة في (استعادة السكينة في الدين، استنقاذ الدولة الوطنية، تصحيح العلاقة مع العالم)، وهنا نتوقف مع رضوان و المحمود لندرك معهما أن نقد الحداثة بهدف البناء عليها وتجاوزها معرفياً عمل فكري مشروع، وليس محاربتها لأهداف عقائدية ولو باستخدام مناهج حديثة، كما الحال مع ( المسيري، طه، حلاق، المرزوقي، رمضان)، الذين اتفقوا مع متطرفي الأديان المشار لهم أعلاه على (محاربة الحداثة، وفساد الدولة الحديثة)، وهنا يتجلى الفرق ما بين الأصولي الذي يعيش بعقلية دار الحرب فينتج أيديولوجيا ضد عدو مفترض، والمابعد حداثي المتشكك والمتبرم من كل أيديولوجيا تستغله بخطابها التعبوي ضد الآخر.