كانت الثورة الصناعية سببا في اندثار الفكر الموسوعي، وباعثة للفكر التخصصي المرتبط بنشأة العلوم المختلفة بنظرياتها الخاصة ومنظوماتها المفاهيمية ومصطلحاتها الخاصة، لذا اقتصر الباحثون على تخصصاتهم، فنشأت أزمة حقيقية، سارع الغرب إلى حلها، فاستبدل منظومة بها تعترف بالروابط الموجودة بين المعارف والكيانات والظواهر المختلفة. وقد أبان هذا الوعي حاجة معرفية ملحة، لفتح العلوم المختلفة على بعضها، للإجابة عن أسئلة لم تستطع التخصصات المختلفة الإجابة عنها إلا مجتمعة فيما يعرف بـ«الدراسات البينية» التي تلتقي فيها التخصصات والعلوم والمعارف المختلفة، لتحليل الظواهر المعقدة والمركبة، مجاوزة التفكير المغلق، ومبشرة بالعودة إلى الفكر الموسوعي ووحدة العلوم. وقد كان لـ«علم اللسانيات» مع دي سوسير (De saussure)، وما تناسل عنه من معارف، دور كبير في تقارب العلوم الإنسانية من جديد، لأن هذا العلم يمسك بزمام اللغة، واللغة بوظيفتها الرمزية فرضت هذا التقارب بين العلوم مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وخلقت هذا النوع من البينية في الدراسات.

«الدراسات البينية» مصطلح إنجليزي Interdisciplinary Studies يتألف من مقطعين، مقطع Inter بمعنى «بين»، وكلمة «نظام» Discipline بمعنى «مجال دراسي معين»، وهي الدراسات المعتمدة على حقلين أو أكثر من حقول المعرفة، للإجابة عن إشكالية معرفية يصعب الإجابة عنها من خلال تخصص أو حقل معرفي واحد.

ومجال الدراسات البينية واسع، حيث إنه لا يقتصر على التكامل بين العلوم الإنسانية، بل يجاوزها إلى التكامل مع العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا.

ولأهمية هذا التكامل المعرفي بين العلوم من خلال الدراسات البينية، أُقيمت المؤتمرات والندوات، وأُلقيت المحاضرات، لفتح آفاق جديدة للبحث العلمي، ومع أهمية هذا النوع من الدراسات بقيت إشكالات عدة حالت دون الاستفادة منها.

لن أتحدث عن إشكالية تحيز الباحثين لتخصصاتهم، ولا عن إشكالية الأدوات والإجراءات وتباينها من تخصص لآخر، ولا عن إشكالية ذوبان الباحث في التخصصات الأخرى على حساب تخصصه، بل سألقي الضوء على إشكالية توجّه تلك الإشكالات جميعها، ألا وهي إشكالية المنهج.

مشكلة المناهج وتنافرها، وتعارضها في العلوم الإنسانية، مشكلة قديمة وعويصة في الوقت نفسه، تعود لنشأتها بصفتها علوما في القرن التاسع عشر، حيث خرجت من رحم العلوم الطبيعية، وكانت هذه العلوم تفتقر إلى المناهج، فبدأت رحلة البحث عن مناهج، وما كان أمامها عند نشأتها إلا مناهج العلم الطبيعي. وقد ظهر التأثير على مسميات تلك العلوم، حيث أطلق أوغست كونت (Auguste Comte) على «علم الاجتماع» - ابتداء - «علم الفيزياء الاجتماعية»!.

وإشكالية تعدد المناهج المستعملة داخل العلم الواحد خلقت التنافر، ففي علم التاريخ تعددت مناهج الباحثين، فهم إما أتباع المنهج الوضعي (Positivist)، الذي يضع التاريخ في مصاف العلم التجريبي (Emprical) الذي يرى أن التاريخ معرفة بعدية تقوم على معطيات الحس والتجربة مثل علم الفيزياء، لهذا كارل همبل (Carl Hempel)، وهو فيلسوف تجريبي، ذهب إلى أن المؤرخ يستطيع أن يفسر اغتيال القيصر تماما كما يفسر الجيولوجي زلزالا، أو كمثالي «كرانكه» أو «كولنجوود» ممن يروا أن التاريخ معرفة عقلية قبلية، لا يناسبه هذا التفسير القائم على الاستقراء، بل يناسبه الاستنباط العقلي.

هذا في العلم الإنساني الواحد، فكيف سيكون الأمر بين علم إنساني وعلم إنساني آخر، فإذا كان هناك تعاون بحثي بين أستاذين، أحدهما في التاريخ وآخر في علم الاجتماع، وكل منهما يتبع منهجا مغايرا، حيث إن أستاذ التاريخ يتبع المنهج المثالي العقلي، وأستاذ علم الاجتماع يتخذ من المنهج الوضعي التجريبي منهجا له، فسينشأ التضارب من جهة المناهج، فأستاذ علم الاجتماع الوضعي حينما يريد دراسة ظاهرة اجتماعية يراها موضوعا منفصلا عن ذاته، فيعاملها معاملة كمية، وبهذا يأخذ البحث اتجاها تجريبيا، يعمد الباحث فيه إلى منهج الاستقراء، منتقلا من الجزء إلى الكل من خلال التركيب، بينما يرى العقلاني تلك الظاهرة غير منفصلة عن ذاته، ويعاملها معاملة كيفية لا كمية، حيث يتجه فيها البحث إلى وجهة عقلانية مغايرة، مستعملا منهجا استدلاليا آخر، هو الاستنباط، ومنتقلا فيه من الكل إلى الجزء؛ لتعميم النتائج من خلال التحليل. وهذا كله داخل علم إنساني مداره الإنسان، فماذا عن «الدراسات البينية» بين علم إنساني وآخر طبيعي؟!.

قد يقول قائل: ثمَّ تعاون بحثي، ولم نلاحظ هذا الإشكال الذي تتحدث عنه، فنقول: تقوم الدراسة دون أي مشكلات أو تضارب إذا كان الباحثان يعملان بطرق تقليدية، ولا يعيان قيمة المناهج في توجيه البحث العلمي.

خلاصة القول: إن أي محاولة للاستفادة من حقل «الدراسات البينية» ستكون خلاصتها إيمان الباحثين بالتضارب بين المناهج، ولهذا فإن التكامل بين العلوم تحت ما يعرف بـ«الدراسات البينية» - مع أهميته في الارتقاء بالبحث العلمي - لا تتأتى فائدته إلا بالتكامل بين هذه المناهج المتنافرة، ثم التكامل بين التخصصات والعلوم.